عناقيد الجنّة

مطبخي الفلسطينيّ: تاريخ وقصص عائلية

مزنه بشاره |

لدي خوف من المرتفعات، من النوع الذي يشل قدمي. سيشهد زوجي على ذلك إذ حاول جرّي محرجا من باب المصعد أعلى برج إيفل. عندما طرحت الموضوع مع صديقة لي تعمل كأخصائية نفسية، سألتني فيما إذا كان الخوف يرافقني منذ الطفولة. أعادني سؤالها لأيّام عطلة الربيع في طفولتي، والإجابة على سؤالها هي – كلّا. في تلك الأيام، عندما كانت الشمس حارة ومداعبة وكلّ شيء من حولنا كان أخضر ومزدهرًا، كنت أقضي الوقت مع أخواتي في تسلق شجرة البلوط القديمة في حديقة والديّ أو على سطح المنزل، حيث كنا نقطف أوراق العنب الصغيرة، تلك التي تستخدمها أمي، خالاتي وجاراتنا لصنع الدوالي – ورق عنب محشية من المطبخ الشرق أوسطي.

كرمة والديّ كانت مميّزة في الحيّ. كرمة من النوع الدابوقي-الخليلي إضافة إلى إمدادنا السنوي بأوراق للحشي، فهي تزوّدنا بالحصرم أيضًا – أي العنب غير الناضج. يتم عصر بعض الحصرم للحصول على عصير حامض غير ناضج، فقد كان يستخدم كبديل لعصير الليمون والبقيّة يتم تخميرها في ماء مالح (أو ماما يسمّى “حصرم مكبوس”) أو فرمها مع الثوم، الفلفل الحار والجوز وحفظها مع زيت الزيتون في مرطبان محكم الإغلاق. في الصيف، تنضج عناقيد الحصرم المتبقّية لتصبح عناقيد عنب ذهبي. كان من المتّبع أكل العنب في الصباح والمساء بجانب اللبنة الحامضة أو الجبنة المالحة، وما لم يؤكل كان يُعصر ويُطهى ليصبح دبسًا (كدبس الرمان) أو مربّى والبعض الآخر يتم تجفيفه ليصبح زبيبًا

الكرمة في الثقافة الفلسطينية

تحظى الدالية بمكانة بالغة الأهمية في الثقافة العربية عامّة والفلسطينية خاصّة، إلى جانب التين والزيتون. كان يجب زراعة هذه الأشجار الثلاثة في ساحة كل منزل. كانت كرمة العنب مركز كلّ حديقة في البيوت العربية القديمة، وتحت ظلّها يقضي أفراد الأسرة أيام الصيف الحارة. اتذكّر كرمة جدّتي وجدي بشكل خاص، فهناك أمضينا أمسيات أواخر الصيف. اعتاد جدّي وأصدقاؤه الجلوس تحت الدالية وشرب القهوة السادة (قهوة سوداء مخمرة) بينما كانوا يبدون إعجابهم بعناقيد العنب التي بدت وكأنها ثريات ذهبية، مرددين الآيات القرآنية التي تصف الجنة ممتلئة بثمار العنب.

رقبة غنم محشوة بالعنب والزبيب
رقبة غنم محشوة بالعنب والزبيب. تصوير متان شوفان

لماذا تتمتع الدالية بمثل هذه المكانة الثقافية والدينية العالية في الإسلام؟ بحسب الحكاية الشعبية يُروى أنّ الكرمة نبتت من بذور العنب بعد أن سُقيت بدموع الملاك جبريل، إذ حزن عند طرد آدم وحواء من الجنة فهو الذي علمهم كيفية الأكل والاعتناء بهذه الشجرة. إضافة إلى ذلك، قد ورد ذكر العنب 11 مرة في القرآن وفي وصف الجنة يجسد الله غناه بالكروم، فتحظى هذه الشجرة بمكانة قدسية وتسمى بالشجرة المباركة.

على مر التاريخ، زراعة العنب في منطقتنا هدفت أساسًا إلى إنتاج النبيذ، وشهدت على ذلك معاصر العنب القديمة التي وجدت أثناء الحفريات في جميع أنحاء البلاد. ذُكرت جودة عنب ونبيذ المنطقة في كتابات الفراعنة الذين قاموا باستيرادها إلى مصر عبر القوافل، وإحدى المناطق الزراعية الرئيسية والتاريخية هي الخليل – حيث ينمو فيها حوالي 15 نوعًا من العنب مثل الدابوقي، الجندلي، البيروتي والمزيد. مع تأصيل العقيدة الإسلامية والنهي عن شرب الكحول، تكثف إنتاج مشتقات النبيذ في مناطق زراعة العنب؛ إلى جانب خلّ العنب، تمّ إنتاج الدبس أيضًا (عسل العنب المستخرج من عصير العنب الحلو في أواخر الصيف، الذي تتم تصفيته باستخدام تراب الحور فينتج عصير. بعد ذلك يتم طهيه لمدّة ساعات على نار الحطب إلى أن يصبح حلوًا ولزج القوام كالعسل. حتى يومنا هذا، تملأ رائحة الكراميل المنبعثة من المواقد شوارع الخليل من نهاية آب وحتى بداية أيلول)، عنطبيخ (مربى العنب دون إضافة السكر مع بذور العنب التي تتفرقع في الفم مع كل لقمة)، ملبن العنب (رقائق العنب مع بذور اليانسون أو القزحة المجفّفة بالشمس على أسطح البيوت) والزبيب، بالإضافة بالطبع إلى استخدام أوراق العنب للحشو والطبخ (على ما يبدو، استخدام أوراق العنب للحشو هو بمثابة امتداد لأوراق التين المحشوة).

مثلثات فيلو محشوة بالقشطه العنب والزبيب.
مثلثات فيلو محشوة بالقشطه العنب والزبيب. تصوير متان شوفان

تعتبر زراعة العنب صناعة رئيسية في اقتصاد الدول العربية وفي مناطق السلطة الفلسطينية حتى يومنا هذا، إلا أنها تأتي بعد قطاع الزيتون. هذا على الرغم من كونه نباتًا مدللًا يتطلب رعاية دائمة من قبل المزارعين على مدار السنة.

استخدام العنب في الطهي من مطبخي الخاص

في يومنا هذا نستطيع إيجاد مجموعة متنوعة من أصناف العنب في الأسواق المحلية طيلة فصل الصيف.  المفضل لدي هو الصنف الأصفر الذي يأتي في أواخر الصيف، إذ يصبح بعد موسم طويل تحت أشعة الشمس غنيًا بالسكريات ومثاليًا للمربى والدبس الذين استعملهم في الشتاء والربيع. لنحتفل بموسم العنب، أدعوكم لتجرّبوا طبقًا تقليديًا قديمًا وهو رقبة خروف محشوّة بالزبيب والعنب أو طبقًا عصريًا من مطبخي الخاص وهومثلّثات الفيلو محشوّة بالقشطة، العنب والزبيب.

المزيد من المقالات من مجلة اسيف