زعتر اخضر في سله
تصوير:متان شوفان

زعتر, رائحة الشتاء العطره

مطبخي الفلسطيني: قصص عائليه وتاريخ

مزنه بشاره |

 حملت سلتي, ابقل العليق والمرار, واللوف مبرد اللسان, يلذعه مبردا,والزعتر الممنوع

 حملت سلتي, ابقل العليق والمرار, واللوف مبرد اللسان, يلذعه مبردا,والزعتر الممنوع

حنا ابو حنا- 1988

في طفولتنا, اعتادت امي ان تعد لنا نفس الزوادة يوميا, خبز كماج مدهون بزعتر مخلوط بزيت الزيتون, احيانا رافقتها “مسحة” لبنة حامضه. الزيت المصبوغ بالاخضر الفاقع تسرب الى الكيس الورقي الذي غلف الزواده, واحيانا حتى الى الكتب والدفاتر. ككل الفلسطينيين, امنت امي ب”قوة الزعتر” حيث يسود الاعتقاد ان الزعتر يحسن من القدرات الذهنيه وعمل جهاز الاعصاب. اثناء فترة دراستي الجامعيه حرصت على الحفاظ على مكونات هذه الزوادة وتناولت “ساندويش” زيت وزعتر في صباح كل يوم امتحان.

تصوير متان شوفان

بكل مطبخ فلسطيني ستجد مرطبان -او عدة مرطبانات- زعتر, هذه الخلطه البسيطه والخارقه في نفس الوقت, التي تضيف لكل طبق طعم الارض والشتاء, سواء كاضافة (للسلطات, للاجبان, للبيض المقلي), كمكون في مخبوزات عديده- ولا يلزم التعريف بالمناقيش الشهيره- او كتابل لتعزيز طعم اللحوم والاسماك, واليوم نرى ان المطابخ المعاصره تستعمله كاضافة لاذعة لاطباق الحلويات. بالنسبةلي, كغالبية الفلسطينيين, اكل واعداد الزعتر, يتعدى الاحتياج الغذائي, بل هو رابط يصلني بتقاليد وحضارة, ويربطني بالارض,وذكريات تراب رطب ابتل من المطر تختلط فيه رائحة العشب مع رائحة الشومر والزعتر.

ما هوالزعتر؟

الزعتر, نبتة محليه, عرفت سابقا باسم “صعتر” او باسمها العلمي “اوريغانوم سيرياكوم”, عشبة بريه تنمو في تلال وجبال منطقتنا. الاستعمال الرئيسي للزعتر هو لاعداد خلطة التوابل المعروفة بنفس الاسم – الزعتر او كما تسمى في بعض المناطق – الدقه والمعدة من اوراق الزعتر المجففة والمطحونه باضافة السمسم والسماق الحامض. يمكن ايجاد الزعتر طيلة السنه, الا ان اوراقه تكون في ذروة الاخضرار والطراوة في اخر الشتاء والربيع. خلال الصيف يزهر الزعتر, لذلك يوصى بعدم قطفه- لان طعم الاوراق لاذع جدا ولان القطف قد يؤثر سلبا على تكاثر النبتة وانتشارها

تصوير متان شوفان

في كتابه “طعام من هنا” يكتب د. اوري مئير تسيزك ان الزعتر كان  احد اهم النباتات في منطقتنا منذ القدم, “الى جانب كونه مركبا اساسيا في خلطة التوابل المعروفه, يعتبر الزعتر عشبة مركزية في الطب التقليدي- العربي واليهودي, وقد ذكر في التوراه كمادة مطهره”

ذكر الزعتر كثيرا في كتب الطب والطبخ القديمه, تحت اسم “صعتر”. في كتاب الطبيخ للوراق, اقدم كتاب طبخ عربي من القرن العاشر,يذكر الخواص الطبيه للزعتر, وكونه عشبة مجففه ومسخنه, والتي تساعد في علاج داء جهاز الهضم, علاج البلغم,لتتبيل اللحوم, و”تخفيف” الاطباق الثقيلة على المعده. توزيع زعتر حول البيت وعلى حافة الشبابيك والابواب يعد طريقة فعاله لابعاد الافاعي والعقارب. واحدة من الوصفات المدرجة في كتاب الطبيخ تدعى “ملح طيب”, خلطة ملح مع زعتر مجفف وبذور رمان مجفف, سمسم محمص وفتات خبز, وهي تشبه بشكل كبير خلطة الزعتر المعروفة في ايامنا . من المثير للاهتمام ان الكتب القديمه تفرق بين الزعتر المزروع في البساتين “زعتر بستاني” للزعتر الذي ينمو بشكل طبيعي “زعتر بري”, حيث يقول ابن البيطار في كتابه “منافع الاغذيه” ان للزعتر البستاني خواص اقل جودة من البري, لكنه افضل للطبخ ويسهل الحصول عليه.

موسم امي

بينما موسم الزيتون هو موسمي المفضل, موسم الزعتر هو بالتاكيد موسم امي المفضل, حيث ستجدها في ذروة الشتاء مع يدين موشومتين بالاخضر تقطف او “تقطم” الاوراق عن العروق من الزعتر الذي ملأت به حديقتها. وفي كل حجرات المنزل المنبعثة منه رائحة البريه, ستجد قطع قماش قد فردت عليها اوراق الزعتر لتجف في طريقها لتصبح دقه تعدها وتهديها لكل افراد العائله.

في طفولتي, ابتدأ اعداد الزعتر بيوم شتوي مشمس , حين قصدنا البريه لقطف الزعتر. سفرة قصيرة من قريتي كفرقرع ,في سيارة ممتلئة بالركاب, اوصلتنا الى اراضي الروحه الخضراء, بمنطقة القرى المهجره صبارين وام الشوف. هذه المنطقه هي احدى اجمل مناطق فلسطين واخصبها, حيث تتغلغل الطبيعه الى كل خلايا الناظر, برائحة تراب, شمر وزعتر.

قطفنا الزعتر مظهرين احتراما وشكرا للارض. بعد استكشاف سريع للمنطقه وجدنا بين الصخور “بيوت” الزعتر الافضل والاكثر اخضرارا, بعدها ابتدأنا بال”لقاط” بظهور محنيه, شاكرة للنباتات, واخترنا الفروع الغضه الطريه, ذات الاوراق الكبيره, وقطعناها بانتباه وحذر لحماية الشروش للمواسم القادمه. كنا نقضي يومنا هكذا قاطفين الزعتر, الميرميه, العكوب, اللسينه والحميض. وعند الغروب كنا نعود فرحين للبدئ بالقسم الثاني والاصعب من تحضير الزعتر, وهي فصل الاوراق عن السيقان.

كومة من الزعتر وضعت في مركز الغرفه, وبايدي ممرنة منذ الولاده, بدأنا بالعمل بتلهف: فقد عرفنا ان “حفلة قراص” ستقام غدا. رائحة تلك الارغفة المسقية بزيت الزيتون والمخضرة من الزعتر والبصل, مخبوزة في طابون حطب , كانت كفيلة بدعوة كل أهل الحاره للحضور ومشاركتنا الطعام.

تصوير متان شوفان

اما النصف الاخر من الاوراق فكانت تخصص لاعداد الدقه او خلطة الزعتر. في المنطقه قد تجدون عدة اشكال للدقه, المصريون يجهزون “الدئه” خلطة من الحمص المحمص المجروش مع السمسم الفستق والتوابل. في غزه, يصنعونها مع العدس وبذور الشبت السماق والقمح المحمص, وهي تشبه الدقه السوريه والتي يضاف لها الزعتر المطحون. الدقه الفلسطينيه تشبه تماما تلك اللبنانيه: تطحن اوراق الزعتر المجففه مع سمسم محمص وسماق طازج حامضتم قطفه في نهاية الصيف. تستعمل خلطة الدقه على مدار العام, مضفية نكهة خاصة محليه على المخبوزات السلطات والاطباق  المختلفه.

قطف الزعتر كرد فعل سياسي؟

في مقالته “صراع العكوب والزعتر”يكتب المحامي ربيع اغباريه: “ان خلطة الزعتر هي جزء اساسي في المطبخ الفلسطيني. وانه يشكل رمزا لبساطته, مركب لا غنى عنه تقريبا, حتى في اوقات النقص. لهذا السبب, غالبا ما يذكر في الخطابات والشعارات الفلسطينيه كرمز لطعام اساسي طبيعي عالي الجوده يمثل علاقة الفلسطيني بالارض. “ الزعتر موثق في القصائد والاغاني واشهرها قصيدة “احمد الزعتر” التي كتبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 1976 بعد مجزرة تل الزعتر في بيروت. هنا, يشكل الزعتر عاملا مركزيا يرمز للفلسطيني الذي فقد ارضه لكن لم يفقد الرابط معها.

عام 1977, اعلن عن الزعتر انه نبات محمي ودخل قائمة النباتات الممنوع قطفها وفق القانون الذي حمل عقوبات صارمه لمن يخترقه. اعتبر الفلسطينيون من سكان اسرائيل هذا القانون قانونا مجحفا بحقهم ومعاديا لهم ولثقافتهم وتقاليدهم, لذا كان الحفاظ على جمع الزعتر واستعماله سبيلا للاحتجاج والمقاومه.

اثار هذا القانون العديد من التحفظات, لفقدانه اثباتا علميا قاطعا يربط القطف التقليدي للزعتر بانقراضه او عرقلة تكاثره ونموه, وخاصة ان هذا التقليد لم يلق اي منع في البلدان المجاوره. في لبنان, على سبيل المثال, اعطي تصريح خاص لجمع 5 كيلوغرامات من الزعتر لكل فرد, ومع ذالك بقي الزعتر نباتا شائعا وحاضرا في المنظر الطبيعي اللبناني. في مقالته “جدار غير مرئي: قطف النباتات كطريقة لحفظ التقاليد البيئيه مقابل قانونن حفظ الطبيعة الاسرائيلي” يدعي اخصائي البيئه والنباتات البريه ياتير ساديه ان حظر قطف النباتات لن يمنع انقراضها ويضيف :”في بعض الاحيان قد يكون لها التاثير العكسي, لان تجريم القطف سيمنع القاطفين التقليديين (اللواتي يكن نساء بالعاده” ويترك الساحة لتجار الزعتر (رجال عادة), والذين لا يحافظون بالضروره على قواعد القطف التقليديه التي تحمي النبات وتمكن استمراريته.”

حسب موقع عداله, اعلنت سلطة الطبيعه والحدائق الوطنيه عام 2019 ان حظر قطف الزعتر ملغي وان جميع القيود فيما يخص القانون قد تم ابطالها. ورغم ذلك بعد مرور شهرين من هذا الاعلان, استمر خلالهما مفتشو السلطه باعطاء المخالفات لقاطفي الزعتر (العرب بغالبيتهم الساحقه) اعلن عن تعديل للقانون يفي بتقييد الكمية المسموح بقطفها ل 200 غرام داخل حدود المحميات, و1.5 كيلوغرام في السهول المفتوحه. ردا على ذلك صرح المحامي اغباريه قائلا:”بعد تصريحات مسؤولين عالي الدرجه في سلطة حماية الطبيعه, اعلنو فيها خلال وسائل الاعلام عن ابطال القانون, واعدين رفع الحظر عن جمع العكوب والزعتر, نرى الان ان العقوبات والمخالفات ما زالت تعطى للقاطفين, بعكس ما نشرته السلطه مؤخرا”

في مقابلة لصحيفة غلوبس قال فيها بروفيسور نتيف دودائي- باحث ومختص في الزعتر ورئيس قسم النباتات الطبيه في مركز فولكاني – ان على السلطات فرض عقوبات ثقيلة على قاطفي الزعتر لاهداف تجاريه ورفعها عن القاطفين التقليديين لاستعمالات بيتيه. وذكر ايضا كميات الزعتر التي اقتلعت اثناء مشاريع البناء واقامة الشوارع, والتي تسببت بضرر اكبر بكثير مما قد يسببه اي قطف لاستعمال منزلي

في السنوات الاخيره,يلاحظ مهتمي الطبيعه انخفاضا في كمية وجودة الزعتر, النابعان,على الاغلب, من حظر القطف و”قانون الماعز”, الذي حظر تربية ورعي العنز السوداء في الطبيعه. في الماضي شكل هاذان العاملان طريقة طبيعيه لتقليم النباتات مما حسن من جودة الزعتر وقوى شروشه وزاد من انتشاره في السنة التاليه. اليوم الغالبيه الساحقه للزعتر المستعمل ياتي من زعتر مزروع في مزارع.

الزعتر في المطبخ الفلسطيني

في المطابخ المحليه في فلسطين, سوريا لبنان والاردن, يستعمل الزعتر لانواع المخبوزات كالمناقيش الفطاير والمعجنات. تضاف الاوراق الخضراء للسلطات كسلطة البرتقال والشمر مع الجبنه التي اعدها دائما في جولاتنا في الطبيعه. كما يستعمل في وصفات اللحوم او كاضافة للبرغل او الفريكه. انا احب اعداد دجاج مشوي متبل بالزعتر, السماق وزيت الزيتون. ممكن حفظ الاوراق مجففه, مجمده او محفوظة في زيت الزيتون باضافة الثوم والتشيلي وبذور الخردل.

تصوير متان شوفان

هذا الشهر ساشارككم وصفة تقليديه ل “قراص الزعتر” او “زعتر فلاحي فلسطيني” ,ارغفة من الخبز المورق محشوة باوراق الزعتر والبصل الاخضر مشبعة بزيت الزيتون عالي الجوده. هذه الوصفة شائعة جدا في منطقة المثلث, طولكرم, جنين والقدس وضواحيها. وصفة امي تعتمد البصل اليابس المقلي بزيت الزيتون واوراق الزعتر المقطعة ناعما. الوصفة التاليه هي وصفة حماتي- حيث تعد افضل اقراص زعتر تذوقتها مستعملة البصل الاخضر واوراق الزعتر كاملة دوت تقطيع, مما يعزز من نكهة الزعتر.

الوصفة الثانيه هي وصفة كرامبل التوت والزعتر, دمج بين مكونين شتويين. استعملت فيها بضع قطرات من ماء الزهر وقليل من قشر البرتقال وملعقة من زيت الزيتون لتقوية النكهة. ممكن استعمال فاكهة موسمية اخرى عوضا او اضافة الى التوت.

المزيد من مجلة اسيف