Vintage image of workers' restaurant in Jerusalem.
WORKER’S RESTAURANT IN JERUSALEM.

 مطاعم تعيدك إلى أحضان البيت: من المطاعم التعاونيّة وحتى المطاعم العرقيّة في نفيه شأنان

ما الذي تخبرنا به المطاعم الشعبية حول تاريخنا وثقافتنا؟ الأنثرُوبُولُوجِيّ ب. نير أفيآلي يسلط الضوء على التغييرات في عالم المطاعم – ومَنْ يرتادونها.

ب. نير أفيآلي |

 يعبّر مصطلح “المطاعم الشعبية” بداية، عن تمييز اجتماعي – اقتصاديّ: هي مؤسسات طهويّة معدّة لتقديم الطعام للشريحة السكانية التي تعتمد على العمل الجسماني الشاق في معيشتها (“العمّال”) والذين يحتاجون عادة لكميات كبيرة من الطاقة، ولطعام مغذٍ ومشبع بصفة خاصة – وبتكلفة منخفضة تناسب دخلهم المنخفض.   يندرج معظم المواطنين في إسرائيل، مع مطلع الألفية الثالثة، ضمن الطبقة المتوسطة في المجتمع، والغالبية العظمى من العمّال هم فلسطينيون (مواطنو إسرائيل، وسكّان الأراضي المحتلة بصفة خاصة).  قلة فقط من اليهود مواطني إسرائيل، يعملون في أعمال جسمانية، ويمكن تعرفيهم كعمّال. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الأمر لم يكن كذلك في الماضي، فقدّ قدّمت المطاعم الشعبية المختلفة، خلال فترات مختلفة، خدمات لعمّال المهن اليدوية، من مجموعات قوميّة وعرقية متنوّعة 

المطاعم الشعبية قبل قيام الدولة

أُسست الحركة الصهيونية الحديثة في شرق أوروبا، وكان الكثيرون من أعضائها منتسبين لحركات اشتراكية التي اعتبرت الأعمال اليدوية كالزراعة، البناء والصناعة، طريقة مركزية “لتصحيح” حالة التهميش لليهود في المنفى، حيث اعتمدوا بالأساس على التجارة والسمسرة في معيشتهم، ولم يعملوا في الصناعة، وكثيرا ما اعتبروا لذلك طفيليين يستغلّون تعب الآخرين ومجهودهم.  العمل الجسماني اعتُبر قيمة مهمة، والعامل اليهوديّ، وهي الشخصية الصهيونية المثالية في مطلع القرن العشرين، كان يتمتع بمواصفات بارزة: الجسم القويّ ومفتول العضلات، اللباس البسيط، مكان الإقامة المتواضع وكذلك الممتلكات المتواضعة. وقد أقيمت المطاعم الشعبية لإطعام هؤلاء العمّال اليهود، والتي شغّلتها وموّلتها حركات أيدولوجية – سياسية، وقدّمت وجبات بسعر زهيد جدا، أو حتى بدون مقابل بتاتا. قائمة الطعام كانت بسيطة للغاية، بسبب الموقف السلبي لمنتسبي الحركة الصهيونية (على الأقل بشكل رسميّ) تجاه نزعة الرفاهية البرجوازية، ولأنّ الكثيرين من المهاجرين (“القادمون الجدد”) كانوا في مقتبل العمر ولا يمتلكون التجربة الطهويّة الكافية، وبطبيعة الحال بسبب النقص في الحوائج والموارد الاقتصادية. ولأنّ الغالبية العظمى من شباب الحركة الصهيونية، قدِموا من أوروبا الشرقية، فقد استند المطعم الشعبي على المطابخ اليهودية – الأشكنازية، سواء كان ذلك في أنواع الأطعمة (شوربة الدجاج بالشعرية، الفطيرة، وغيرها من الأطعمة) وسواء كان ذلك في مبنى الوجبة (حساء، الوجبة الأولى، الوجبة الرئيسية والحلوى)؛ الدمج ما بين قائمة الطعام البسيطة وحتى الهزيلة، وبين جودة الموادّ الخام والطهي، ساهم لاحقا في تعزيز التصوُّر المتدنّي “للمطبخ الأشكينازي” في إسرائيل. تجدر الإشارة إلى أنّ الوجبات في هذه المطاعم مرّت بتغييرات كثيرة خلال السنوات، لكن المبنى الشرق أوروبيّ للوجبة بقي على حاله تقريبا حتى يومنا هذا، على نحو ما ينعكس في الصيغة المؤسساتيّة للمطاعم الشعبية (كغرف الطعام في الجيش، في المستشفيات والمؤسسات الحكومية)، والتي تحظى هي الأخرى بتمويل حتى يومنا هذا. 

مهاجرو الهجرات المتأخرة (الرابعة والخامسة) ولاحقا أكثر الناجون من المحرقة النازية، من الأشكيناز غالبا، والمتحررين من الالتزام الإيديولوجيّ، ساهموا في بلورة طبقة متوسطة برجوازية، مدنية، أشكنيازية وذات تفضيلات طهوية مركّبة أكثر. لكن تهميشهم الاجتماعي، في بداية الأمر على أقلّ تقدير، لم يؤثّر على التناغم الأيديولوجيّ الاشتراكي وعلى مميزاته الطهوية، حيث شكّلت غرف الطعام في الكيبوتسات، وهي مطاعم شعبية بكلّ المقاييس، نموذجا لتغذية وطعام مناسبين في المجتمع الشبابيّ المتشكّل. 

نشوء طبقة العمّال الإسرائيلية، وظهور المطاعم الشعبية

“هجرة الحشود” خلال العقدين التاليين لقيام الدولة، غيّرت وبشكل حادّ التركيبة العرقية والطبقية في المجتمع الإسرائيلي: ضاعفت عدد السكان بثلاثة أضعاف خلال فترة قصيرة، ودفعت في أعلى السلم الطبقي – المهنيّ كثيرا من “المسنين” وبعضها تحوّل، بالأساس بسبب ضغوطات واضطرارات خارجية، لطبقة العمّال في الدولة حديثة العهد.    كما هو الحال بالنسبة “للطلائعيين”، العمّال قبل قيم الدولة، فقد احتاج المهاجرون إلى طعام مغذٍ ورخيص، لكن تفضيلاتهم  الطهوية كانت مختلفة: فقد فضّلوا الوجبات والأطعمة المعروفة لهم من قبل، في البلاد التي هاجروا منها.

 قدِم المهاجرون من بلاد وثقافات متعددة، وكانوا ذوي خلفيات متنوّعة من الناحية الاجتماعية الاقتصادية، الثقافية، التعليمية والمهنية: وكانوا من بينهم ناجون من المحرقة النازية من أوروبا، إلى جانب قادمين من شمال أفريقيا، الشرق الأوسط، البلقان ورومانيا.  ومن بينهم كذلك، المهاجرون القادمون من دول عربية، وبالرغم من خصائصهم ومميزاتهم المختلفة، تمّ تعريفهم من جديد، من قبل الدولة وممثليها كأصحاب هوية عرقية مشتركة: “الشرقيون”. وفعلا، وخلال عقدين من الزمن تقريبا تشكّلت هذه المجموعات في طبقة اجتماعية اقتصادية بارزة، ذات ثقافة ونزعة سياسة مشتركتين، التي شكّلت ندا سياسا قويا للنخبة السياسية الشرق أوروبية، بل ونجحت بالإطاحة بها في نهاية المطاف. أبناء هذه المجموعة الاجتماعية – العرقية الجديدة، تمّت تهيئتهم للعمل في الأعمال اليدوية، لكن لم يكن بانتظارهم، كما هو الحال مع مجموعات أخرى سابقا، مطابخ وغرف طعام جماعية.  البديل تمثّل في المطاعم الشعبية، مطاعم رخيصة بملكية شخصية، أُقيمت في الضواحي الجغرافية والاجتماعية، والتي قدّمت وجبات عرفت كوجبات “شرقية” – عدد محدود من الوجبات وطرق الطهي من المطابخ الأصلية المختلفة، مثل: الكسكس المغربي، الكبة الكردية – العراقية ولحم مشوي “على النار”، إلى جانب وجبات من المطبخ العربي والفلسطيني، مثل: الحمص، الطحينة والفلافل.

المطاعم البلغارية والرومانية التي توجّهت للعمّال (القادمين من رومانيا ودول البلقان، وآخرين كذلك) أقيمت بالأساس في يافا وحيفا، ولكن نظرا للاندماج السريع نسبيا لهؤلاء المهاجرين، في الطبقة المتوسطة، فقد تغيّر تصنيف هذه المطاعم “لمطاعم عرقية” لا تعتبر من مطاعم النخبة، لكنها في الوقت ذاته ليست كالمطاعم الشعبية الرخيصة.

 بالمقابل، نشأت في إسرائيل وعلى يد المؤسسة الرسمية، طبقة عمّال أخرى – الفلسطينيين مواطني إسرائيل، الذين اعتبروا أعداء محتملين، لذلك فُرض عليهم الحكم العسكري الذي قيّد من اندماجهم الاقتصادي، الاجتماعي والاقتصاديّ. أكشاك الطعام القليلة في البلدات العربية (بالأساس أكشاك الفلافل والحمص، وأحيانا مطاعم أخرى تقدّم طعاما بيتيا ولحما مشويا) كانت معدّة لخدمة عمّال الأعمال اليدوية الفلسطينيين بالأساس. وقد منعهم الفصل الأيديولوجيّ والدينيّ من خدمة الشريحة السكانية اليهودية كذلك.  إلغاء نظام الحكم العسكري عام 1966، ودخول الفلسطينيين من المناطق التي احتلتها إسرائيل خلال حرب حزيران، دفعا الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل لأن يرتقوا أكثر في السلم الاجتماعي، وتمكّن أصحاب المطاعم من الفلسطينيين مواطني إسرائيل، وبشكل تدريجي، من دخول السوق اليهودي. لكن خلال السنوات الأخيرة فقط، نجح الطهاة الفلسطينيون بانتزاع اعترف (جزئي ومحدود) لطعامهم ومطابخهم كمطابخ عالية الجودة، تستحق الاهتمام، بل والاعتراف بها كمطابخ من النخبة كذلك. قائمة الطعام في المطاعم التي يمتلكها الفلسطينيون تشبه، وأحيانا تتطابق تماما مع قائمة الطعام في المطاعم “الشرقية”. الطعام في هذه المطاعم رخيص نسبيا، وتندرج ضمن فئة المطاعم الشعبية. 

في السياق الطهويّ – المهنيّ علينا أن نشير إلى يهود اليمن، الذين اعتبروا عمالا بطبيعتهم، القادرين على منافسة العمال العرب المحليين.  تمّ إعداد هؤلاء المهاجرين للضواحي الاقتصادية – المهنية – الجغرافية، وقد جلبوا معهم عناصر طهوية، تحوّلت تدريجيا إلى أهم الركائز التي يقوم عليها المطبخ الإسرائيلي – الشرقي (الجاخنون مثلا)، وكانوا على ما يبدو الأوائل، الذين تبنوا وجبة الفلافل، من المطبخ الفلسطيني، وهي وجبة شعبية بامتياز، التي حظيت باهتمام كبير جدا في المطبخ الإسرائيلي. 

 موجات الهجرة التي شهدتها سنوات الـ -70 والـ- 90، من الاتحاد السوفيتي، لم تساهم، وبشكل مفاجئ، في نموّ وتقدّم المطاعم الشعبية التي قدّمت الطعام الروسيّ.   تماما كما هو الحال في الهجرات القادمة من رومانيا ودول البلقان، فإنّ كثيرين من هؤلاء القادمين الجدد، وخاصة الشباب منهم، اندمجوا في الطبقة المتوسطة الإسرائيلية، بسبب مستوى ثقافتهم ودراستهم، وبسبب تعريفهم العرقيّ “أشكيناز بالتقريب”. الحقيقة أنّ مؤسساتهم الطهوية، لم تعتبر كمطاعم شعبية، حتى وإن قدّمت وجبات كبيرة ورخيصة، تشير مرة أخرى إلى التطابق البارز بين العرقية والطبقية في إسرائيل. مقابل هؤلاء المهاجرين، فإنّ المهاجرين من دول القوقاز، الذين اندمج بعضهم في سوق العمل كعمّال في الأعمال اليدوية، حظوا بتعامل نمطي ومسبق كان موجّها، حتى قدومهم، للشرقيين؛ وعليه، فقد اندرجت المطاعم القوقازية والجروزنية، الرخيصة والموجودة في الضواحي الجغرافية والاجتماعية، ضمن فئة “المطاعم الشعبية”.    استوعبت هذه المطاعم وبشكل طبيعي نسبيا، عناصر طهوية من المطاعم الشعبية الشرقية والعربية، مثل أنواع السلطة المختلفة والخبز كمقبّلات أو كوجبة أولى، الحمص، الطحينة، والفلفل الحار، وكذلك اللحم المشوي على الطريقة الشرقية، كجزء لا يتجزأ من قائمة الطعام.  

مطاعم العمّال الأجانب 

منذ سنوات الـ -90 يعتمد سوق العمل الإسرائيلي على “العمّال الأجانب”: مهجّرو العمل من تايلاند، الصين، وتركيا، الذين يصلون البلاد بشكل قانونيّ للعمل في الزراعة والبناء، إضافة إلى اللاجئين، طالبي اللجوء ومهجّري العمل غير الشرعيين، بالأساس من أفريقيا، الذي يعتمدون في معيشتهم على أعمال يدوية متنوّعة في المدن، مثل: التنظيف، أعمال الترميم والبستنة.  مهجّرو العمل الشرعيون لم يقيموا حتى الآن أماكن طهوية جديّة؛ ولكن بالمقابل فإنّ اللاجئين وطالبي اللجوء من أفريقيا، وكذلك العمّال غير الشرعيين من شرق أسيا، افتتحوا في منطقة المحطة المركزية في تل أبيب، مطاعم رخيصة، يرتادها العمّال الأجانب بالأساس. من هذه الناحية – فإنّ معظم المطاعم الشعبية “الحقيقية” في إسرائيل، التي يرتادها عمّال الأعمال اليدوية، هي مطاعم أرتيرية وفلبينية؛ وهكذا اضطر العمال الفلسطينيون بالاكتفاء بالخبز، الحمص، اللبن والمعلبّات، الذي يتناولنه في مكان العمل. المطاعم الشعبية بمليكة يهود مواطني إسرائيل، والتي تخدم عمّالا يعملون في الأعمال اليدوية من اليهود مواطني إسرائيل، يمكن أن نجدها بالأساس في المناطق الصناعية في هامش المدن الكبيرة، وأحيانا في الأحياء السكنية والمراكز التجارية في الأحياء والضواحي. والطعام الذي يُقدّم فيها هو “شرقي” طبعا، لكنّ الوجبة المركزية في كثير من هذه المطاعم، هي الشنيتسل في رغيف من الخبز، يضاف إليه الحمص، الفلفل الحار والبطاطا المقلية، وهي وجبة جامعة إسرائيلية مميزة، والتي تدمج ما بين الشنيتشل ورغيف الخبز، الحمص والفلفل الحار، وهي أطعمة شرقية، وبين البطاطا المقلية (التشيبس) العالمي / الأمريكيّ. 

العمّال الجدد

في سنوات الـ – 70، استخدام الأنثرُوبُولُوجِيّ الأمريكي دين ماكانيل مصطلح “الأصالة المصطنعة” ليصف الطريقة التي تخلق فيها الشركات السياحية (وربما تزيّف) التجارب والمتعة بالنسبة للسائحين.  وجد ماكانيل أنّ الأشخاص الذين يعيشون في الثقافات الصناعية والمغتربة في القسم الشمالي من العالم، يسافرون إلى دول وثقافات بعيدة لرغبتهم في تجربة “الأصالة في حياة الآخرين”.  وهكذا، مثلا، مَنْ اعتادوا على شراء الأرز مغلفا في أكياس في الحوانيت الضخمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية (وكذلك إسرائيل) يسافرون لتايلاند وفيتنام، ليروا كيف يزرع  الفلاحون ويحرثون سهول الأرز بمساعدة الأبقار، ويحصدون سنابل الأرز بالمنجل وينشرونها على البيادر. لكنّ هؤلاء السائحين يتجاهلون حقيقة، أنّ هذه الأماكن البعيدة والغريبة، تشهد كذلك حركات تصنيع وحداثة سريعتين، وكثير من عمليات الإنتاج لم تعد أصلية بتاتا.    عمليا، صناعة السياحة تنظّم عروضا تقوم على الإصالة، وتحاكي حياة إنسانية طبيعية.

تصنّع الأصالة هو مركّب مركزيّ في النجاح الحاليّ للمطاعم “الشعبية” ذائعة الصيت والمكلفة في أيامنا هذه. المطاعم التي قدّمت في الماضي طعاما مغذّيا لعمّال الأعمال اليدوية، مرّت بعمليات متسارعة من التحسّن والرقي: أبناء الطبقة المتوسطة الإسرائيلية، يتدافعون على المطاعم الشعبية ومطاعم الأسواق، مثل مطعم عزورا (עזורה) المقدسي وأمثاله؛ ولكَرْم اليمنيين (כרם התימנים) في تل أبيب، الذي مرّ بعملية ترويج من جديد؛ والمطاعم الرومانية والبلغارية في يافا وحيفا. أبناء هذه الطبقة يبحثون عن متعة طهوية أصيلة، وبثمن مرتفع – هذا الثمن لا يكون عن الطعام فقط، وهو طعام مغذٍ ورخيص بالأساس، بل عن المتعة – متعة “الأصالة” المصطنعة لأبناء الطبقة المتوسطة.   

 وربما، إذا أمعنا النظر في هذه المسألة، فيبدو أنّ المطاعم الشعبية الحالية في إسرائيل، هي بمثابة غرف الطعام في شركات الهايتك والمطاعم المتواجدة في المجمّعات ومراكز الهايتك.  تقدّم هذه المطاعم الطعام للعمّال الجدد، المستمتعين ببطاقات الطعام خاصتهم، بدرجة لا تقلّ عن متعة وسعادة أجدادهم ببطاقة عضويتهم في نقابة العمّال (الهستدروت)، التي منحتهم الحقّ بوجبة مموّلة في إحدى المطاعم الشعبية.