Illustration of two men's portraits on the wall of a workers restaurant
Illustration by Bar Efraim

المطاعم الشعبية في الأدب العبري

من قصيدة يوسي بناي عن مطعم عزورا حتى “عند تسيون” لمئير اريئيل، ترسم لنا الصحافيه نيتع هالبرين صورة  ادبيه لما يسمى “مطاعم العمال” في المجتمع الاسرائيلي

نيتاع هلبرين |

بالكاد تتطرّق الأدب العبريّ لوصف وذكر المطاعم الشعبية، على الرغم من الطابع الاشتراكيّ الذي تمتّعت به دولة إسرائيل في الماضي. كانت تملؤها غرف الطعام والحانات، بالإضافة إلى بعض المقاهي، إلّا أنّه يصعب اقتطاف مطاعم شعبية من النصوص المختلفة والتوقّف عند دورها ومفهومها. إذ كما هو معروف في أيّامنا فلا وجود تقريبًا للعامل اليهوديّ، فمن يعبّد الطرق، يقوم بإعداد البنية التحتيّة لقطار الأنفاق، يحرث الأرض أو يعتني بالمسنّين ليس بصهيونيّ نموذجيّ قصد بلاده ليَبني ويشيّد، بل هو العامل الصينيّ، التايلانديّ، الفلسطينيّ أو الفلبينيّ. سواء في الوعي الثقافيّ أو في الحقل الأدبي، تتواجد المطاعم الشعبية التي تُعنى بالطبقة العاملة على الأرجح في نافي شأنان داخل منطقة المشاة أو في السوق الآسيوي في المحطّة المركزية في تل أبيب.

Woman cooking with wok through small kitchen window
Photo by Noam Priesman

ومع ذلك، بينما تزداد الاحتجاجات في سوق العقارات الساحق تظهر وبقوّة المطاعم الشعبية، مع تلك الهالة الثقافية التي تتسمّى بها، بعراقتها المعروفة – طرازها القديم، الأطباق الكلاسيكية (مع لمسات حديثة) التي تقدّم بسخاء، الجوّ “الأصيل” وأسعار في متناول الجميع. تتفهّم المطاعم الشعبية الشهيرة مثل “أزورا” حاجات العمّال وتبرزها بطريقة سوقيّة بعض الشيء من خلال اتّباع بعض معتقدات وأعراف الطبقة العاملة: فمثلًا صفحة الفيسبوك الخاصّة بالمطعم تعلن لزبائنها عن وجود “أطباق دافئة على مواقد الطهي” وتعرض صورًا لقدر ضخم تخرج منه الفقاعات. وحتّى الأدب تطرّق لتعزيز هذه السمات، من خلال قصيدته المشهورة للفنّان يوسي بناي عن مطعم “أزورا” الذي يرحّب بزوّاره: ” إذا كانت في الربيع بوادر ليوم جميل/والقلب من فرط الظمأ، وكأنّه مخنوق/تجدني جالسًا في مقهى “أزورا” الأصيل/ في محانيه يهودا، بين أحضان السوق…”.  

ومع ذلك، فإنّ تعظيم مكانة المطاعم الشعبية لا يحجب تغيّب الأساس الذي تمّ اقتلاعه منها – طبقة العمّال بحدّ ذاتها. فالعمّال ليسوا ضمن الجماهير التي تتردّد لمطعم “أزورا” أو غيره من المطاعم الشعبية. الحساب بعد تناول الوجبة لا يسمح بذلك. “في يومنا هذا، تُعتبر فكرة أن يعمل العامل من الساعة الثامنة وحتّى الثانية عشرة، ومن ثمّ يذهب لتناول الطعام لمدة ساعة من الزمن في مطعم شعبيّ، أو لتناول وجبة شاورما والعودة إلى العمل، فكرة غير منطقيّة، إلى جانب كونها مضيعة للوقت والمال، وحتّى وقاحة بعض الشيء “، هذا هو رأي البروفيسور دانيال مونتريسكو، باحث، عالم أنثروبولوجيا الطعام والنبيذ ومحاضر في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة الأوروبية المركزية في فيينا. “كما أنّ الوجبة في مطعم يُعتبر شعبيًا ليست رخيصة على الإطلاق. يفضّل العامل الذي يعمل في الشارع، في الحقل أو في قطاع البناء أن يأكل الخبز مع الجبنة أو النقائق والزيتون، مكوّنات أساسية للغاية بهدف تقليل المصاريف. 

Constractions Worker
Photo by Dan Perez

والسؤال المهمّ هو ما إذا نجح الأدب العبري بضبط هذا التحوّل وإظهاره، وما إذا كان يتّخذ موقفًا تجاه هذا الموضوع. كي نجيب عن هذا السؤال، سنفتح “كعكة التفّاح الخاصّة بوالدتي”(עוגת התפוחים של אמא) ونختار قصّة شفتاي تيبِت من “مذكّرات من الأمس”، التي تتطرّق لروعة أيّام طفولته في سنوات الثلاثين في تل أبيب. شفرا، والدة تيبت، تتألّق في المطبخ، وأطباقها، كعكة التفّاح تحديدًا، تلقى الإعجاب وتبثّ البهجة بين أفراد أسرتها والضيوف. على بعد منزلين من منزلهم، في نهاية الشارع، تعيش السيدة شيختر، التي تقدّم في منزلها وجبات غداء منزلية. لا تتقِن السيدة شختر الطهي إلّا أنّ سكّان الحيّ -الموظّف في صندوق المرضى، موظّف السوبرماركت، جابي الضرائب وآخرين، يتناولون رغمًا عنهم سلطة الجزر، هريس البطاطا وحساء الفاكهة الخفيف الذي تقدّمه يوميًَا في التوقيت ذاته، ويدفعون بواسطة تثقيب البطاقة التي يمتلكونها. 

تغار شفرا من السيّدة شيختر وبناء عليه تقرّر فتح مطعم ليوم واحد – النافذة المنبثقة الأولى إذا صحّ القول. قائمة الطعام، والتي تشمل سلطة الباذنجان المصرية، لحمة العجل المطهوّة بصلصة يوغوسلافيّة، كعكة التفّاح الشهيرة، إلى جانب الرقص على إيقاع الطبول وأقراص الصنج، كلّ هذا تكلّل بالنجاح الكبير. في اليوم التالي، حين أدرك الضيوف أنّ المطعم قد فُتح ليوم واحد لا غير خاب أملهم وبدؤوا يحتجّون نوعًا ما.  

هكذا تمامًا بدات المطاعم الشعبية مسيرتها، يقول الصحفيّ والكاتب ناتان دونفيتش “من كشك صغير لمطعم مرموق – على مدار مئة عام من الطعام في تل أبيب” (أحوزات بييت، 2012): طيلة سنوات العشرين استضافت العائلات التي احتاجت دخلًا إضافيا ضيوفًا ثابتين على مائدتها مقابل مبلغ من المال. “يتمّ تقديم الطعام الذي تمّ تحضيره في نفس اليوم. حساء، طبق رئيسي مع طبق جانبيّ، طبق حلوة. تمّ الدفع نقدًا أو بالدَين “. هكذا هو الحال في القدس، في حيّ مشكنوت، يقول المؤلّف والباحث اليهوديّ في القدس يعقوب يهوشع؛ في كتابه “أحياء في القدس العتيقة تخبرنا: حلقات من حياتنا الماضية” (راوبن مس، 1971) يروي قصّة امرأة تُدعى براخا يتسحاك، كانت تقدّم الطعام للعمّال وللمحتاجين بأسعار شعبية. “كان هذا المطعم الشعبيّ الأوّل، قبل المطبخ الشعبيّ التابع لنقابة العمّال”، يعلّق. 

إضافة إلى بيوت الضيافة العائلية، أقيمت مطاعم صغيرة، شعبية، ابتداء من سنوات الثلاثين، يكتب دونفيتش: بدءا بطريق يافا في تل أبيب، وبعدها في شارع هرتسل وفي مناطق أخرى من المدينة وفي كلّ زوايا البلاد. “يتمّ تقديم حساء فاصولياء لزج القوام وشريحة سميكة من الخبز الأسود، مقابل مبلغ رمزيّ. زجاجة ماء من الحنفية – مجانًا”. 

كانت سنوات الأربعين هي الفترة التي تمّت فيها إقامة مطابخ شعبية، إذ تمكّن العمّال وعائلاتهم من تناول الطعام والاكتفاء بأسعار رمزيّة. على مرّ الأيّام توسّعت هذه المطابخ لتصبح مطاعم تعاونية ناجحة، أطعمت جماهير غفيرة يوميّا. من بينها مطعم “بيت برنر” في تل أبيب، قدّم بين 2,500-3,000 وجبة في اليوم إلى أن تلاشت شعبيته في اواخر الستّينات. تضمّنت قائمة الطعام في هذه المطاعم مثلًا، بيضة روسية (نصف بيضة مسلوقة بصلصة المايونيز)، حساء اليوم، أقراص اللحمة مع طبقين جانبيين وحساء الفاكهة كتحلية. عند طلب الوجبة يتمّ ثقب قسيمة الشراء. 

يُمكننا أن نفهم من هذه النبذة القصيرة والجزئية أنّ المطاعم الشعبية لم تكن يومًا ذات نمط واحد، بل هي عبارة عن مجموعة مطاعم مختلفة تتمتّع بمعالم مشتركة. تتجلّى هذه الحقيقة في رواية إيلي أمير “فتى الدرّاجة” (دار نشر “عَم عوفيد”، 2018)  الذي يصف أحداث نوري حلاستشي، شابّ يبلغ ستة عشر عامًا يهاجر من بغداد إلى إسرائيل ويصل بمفرده إلى القدس بعد حرب التحرير سعيًا للتعليم وإنقاذ أسرته من حياة الفقر والضيق. ورد ذكر الطعام في كلّ صفحة من رواية “فتى الدرّاجة”، وطبيعة العيش في القدس لشاب يكسب لقمة العيش من توزيع الصحف وتنفيذ بعض المهام باستخدام درّاجته تنسجم بوجود المطاعم الشعبية المنتشرة هناك. 

النقود ليست في جيبة نوري، ولهذا تجده يتناول وجبة الغداء في مطعم “طرابلس”، مطعم شعبي وباهت بعض الشيء، يقع في شارع الملك جورج. عند المدخل يجلس السيّد طرابلس، “يهوديّ أصلع ثقيل الهمّة”، وبجانبه يجلس ابنه النحيف ذو الملامح الحزينة، الذي يبيع القسائم ويحتفظ بصندوق النقود متمسّكًا به. “في هذا المطعم الرخيص أكل العمّال، عابرو السبيل والشبيبة العاملة”، يصف نوري الوضع. “تتضمّن قائمة الطعام الموحّدة الحساء، قطعة فيليه مقلية، هريس البطاطا، كومة من البازلاء، والجلي الأصفر للتحلية”. 

Illustration by Bar Efraim

في حالة لم يأكل في “طرابلس”، كان نوري يتناول طعامه في مطعم آخر في شارع العمّال، هناك يأكلون “الحمين، سلطة الملفوف، البودينج وخبز الحلة – أطعمة الملوك”. يقدّم مطعم “طرابلس” والمطعم التعاوني للعامل وجبة مرضية وغير متكلّفة، بسعر يناسب الجميع. على عكس مطعم هيس البرجوازي، حيث “تعلو أصوات الموسيقى من الأسفل”، أو مقهى حرمون في حي رحافيا، حيث تأخذه ميخال شابّة تعلوه بالمكانة، فتعتريه الصدمة عندما يدرك أنّه لا يستطيع دفع ثمن الإسبريسو والشترودل الذي طلبته ميخال.

“هدف المطعم الشعبيّ هو تقديم الطعام للعامل مع كثير من الطاقات، طاقة تكلفتها أقلّ من تلك التي يُنتجها الجسد”، يشرح الدكتور ياحيل تسافان، محاضر في الأدب في جامعة تل أبيب ومؤلّف كتاب “بلاد تأكل: عن الشهيّة الإسرائيلية” (دار نشر أفيك، 2016). “فالحديث عن وجبة مغذّية وقليلة التكلفة. غالبًا يُعتبر مطعمًا في غاية السخاء، يقدّم لك طبقًا كبيرة، مع طبق جانبيّ بحسب طلبك”. تقتصر ساعات عمل المطعم الشعبيّ على ساعات الظهيرة أساسًا، في ساعات عمل العامل، يُضيف تسافان، “والتواصل مع صاحب المطعم مباشر دون وسيط – هذه ميزة تمّ الحفاظ عليها حتّى يومنا هذا، فهي تحمل في طيّاتها العودة إلى البساطة، الاشتياق للأصالة، حتى في العلاقات ما بين الناس”. 

تجسّد الاشتياق للبساطة، للأصالة وللعلاقات الإنسانية الخالية من الوساطة في قصيدة ناتان ألترمان “زمار مبوحيت” (أي الشخص الذي يعزف على الهارمونيكا) عام 1965.  “توجد بيوت نبيذ وحانات وكلّ ما يخطر في البال/في سان فرانسيسكو، مرسيليا وسان مالو/هناك نساء سوداوات، هناك نساء صفراء اللون وهناك حمراء/يمكنك أيضًا أن تقع في الحب يا بني، لما لا؟ /ولكن أنا، على الرغم من كلّ الملذّات، أعيش في نعيم/أنا مرتبط ببقعة مهترئة أسمها “تنوفا” “،كتب ألترمان في قصيدته؛ هو على استعداد للتخلي عن الوفرة، الدهشة والسحر الذي يقدّمه عالمنا الواسع، مقابل البساطة، الاستقرار والعلاقات المتينة، الخالية من الوسائط وحتى العائلية التي يجدها في مطعم “تنوفا”. مطاعم تنوفا (التي سمّيت سابقًا بالبوفيهات) أقيمت في القدس في سنوات العشرين ومن ثمّ في تل أبيب، واشتهرت بوجبات الألبان المتواضعة والتي قدّمتها نادلات برداء أبيض.

العلاقات الخالية من الوساطة برزت أيضًا في العلاقة المباشرة مع صاحب المطعم.  بينما أقسم ألترمان الولاء للمطعم، أهدى مئير أريئيل أغنيته “إتسِل تسيون” (من ألبوم “برنارد ولويز”، 1997) إلى تسيون بذاته، صاحب المطعم الشعبيّ المحبّب على قلبه. العلاقة بين أريئيل وتسيون أشبه بعلاقة أب متفانٍ من أجل ابنه ولا تشبه بتاتًا العلاقة بين صاحب مصلح تجارية يفكّر في مكسبه من الزبائن: “عند تسيون في زاوية تُدعى ترومبِلدور/بين البريد وسينما دان/يضعون الكثير من الحبّ داخل الطبق/مقابل مبلغ أيّ كان/يملؤون الرغيف بكثير من الحبّ/لقليل من الوقت/عند تسيون يفكّرون في إشباع/رغبات الزبائن/لهذا أتشرّف بزيارة هذا المكان/جائع، عطش وخائر القوى/قبل أن تطلب يعرض عليك/لا يجعلك تنتظر”. 

“قصيدة “إتسِل تسيون” تسلّط الضوء على ميزات أخرى تتمتّع بها المطاعم الشعبية”، يقول تسافان. “أول ما يخطر في البال عند قراءة القصيدة أنّ المطعم الشعبي مرتبط بالشارع؛ بحيّ محدّد ومنطقة محدّدة. الأشخاص الذين يترددون إليه لتناول الطعام هم أشخاص يتواجدون حوله. يتميّز بطابع محليّ، أي إذا تواجد في فلورنتين فهو حتمًا يحتوي على قطعة مرتبطة بفلورنتين. إذا تواجد في أشدود ففيه لمسة من أشدود. يشعر الأشخاص بالانتماء للمكان. 

موقع المطعم الشعبيّ هو جزء من هويته. 

“يتمتّع المطعم الشعبيّ بطابع خاصّ؛ فهو ليس اعتياديًا. والأمر كذلك مع صاحب المطعم: فهذه ليست نوعًا من المصالح التجارية مع أصحاب امتياز. غالبًا ما يكون المطعم مُلكًا عائليًا، حيث يتواجد المالك هناك، ولوجوده معنى – أنت لا تتناول الطعام في شبكة مطاعم، أنت تأكل عنده”.

Illustration by Bar Efraim

وحتّى الأدب جسّد الفكرة بأنّ المطعم الشعبيّ بمثابة بيت، وخاصة عندما يتعلّق الأمر برجل، رجل يفتقد شعور الانتماء لوطنه. لذلك لا عجب بأنّ ميخال أوحيون، شخصية المحقّق الأسطوري والحزين الذي ابتدعته الكاتبة باتيا جور في كُتبها البوليسيّة، يأكل في مطعم شعبيّ. في رواية “حالة موت في كليّة الأدب” (1989)،  ينشغل أوحيون، مطلق حديثًا ولديه طفل، بجريمة قتل مزدوجة يكتنفها الغموض.  يخرج لاستراحة الظهر ويقصد “مئير”، مطعم شعبي في سوق محانيه يهودا، “المكان الوحيد لقضاء بعض الوقت، للتفريغ، بعد اكتشاف جثّة، بعد ضغوطات العمل، بعد الاطّلاع على فحص مرضيّ”. يتميّز “مئير” بخصائص إضافية تجعل منه مطعمًا شعبيًا: هو عبارة عن مكان عريق ذي أصالة (صور بيريس، شَمير وبابا صلى معلّقة على جدرانه)، سخيّ ( يقدّم السلطات بسخاء قبل وجبة الكباب وأسياخ اللحمة)، عائليّ (ثلاثة شبّان، يعملون في الطبخ، في تقديم الطعام والمحاسبة، يعاملون أوحيون بأدب واحترام ). الشيء الأهمّ أنّ “مطعم مئير كان مصدر النور الوحيد في منطقة مُهملة يخيّمها الظلام”.   

وحتّى مولكو، شخصية محاسب قد ترمّل حديثًا، من “مولكو”، الكتاب الأكثر مبيعًا من بين كتب أبرهام يهوشاع، وجد نفسه جالسًا في مطعم شعبيّ. هذا ليس مطعمه المفضّل بل على عكس ذلك: في كبسيّة أجراها لبلدة معزولة، محاولًا إيجاد الأمين الماليّ للبلدة، جذبه تناول الطعام في هذا المطعم بسبب إحساس الغربة الذي أثاره، إلى جانب الفكرة بأنّ زوجته لم تكن لتوافق الدخول إلى مثل هذا المكان. كيّ يتمرّد قدر الإمكان جلس في المطعم وطلب حساء أحشاء. يشعر مولكو وكأنّه بلا بيت ومأوى: فالطباخ الهندي الذي يقدّم له الطعام يعرف بطريقة ما بوفاة زوجته ويبدأ بمواساته، كما لو أنّه ابن هذه البلدة. والطعام، الذي يتناوله بشغف محيّر، تفوح منه “رائحة عميقة كرائحة عرق والده”. بعد تناول الوجبة شعر بالضعف، “كما لو أنّ اللحوم التي تناولها شدّته نحو الأرض”، إلى أن وجد نفسه نائمًا في سرير الفتاة الهندية التي أرشدته في شوارع البلدة، ونام نومًا عميقًا.

Illustration by Bar Efraim

هذه الأمثلة تُظهر المطعم الشعبيّ كجزيرة من الاستقرار وسط واقع مضطرب، كبيت محصّن ومقاوم لتخبّطات الحياة التي تتعرّض لها الشخصيات في الأعمال الأدبية. ولكن في الواقع، بنفس القدر الذي تجسّد فيه المطاعم الشعبية الاستقرار والثَبات، يمكن من خلال الأمثلة ذاتها إيجاد آثار التغييرات المهمة التي تطرأ على طابع ودور المطاعم الشعبية، تغييرات قد نتجت عن تقلّبات اجتماعية، سياسية وثقافية في إسرائيل.

ينوّه البروفيسور مونتريسكو إلى وجود تغييرين مهمين يرتبط أحدهما بالآخر. “مفهوم المطبخ الشعبيّ يكمن في التعريف الطبقي لنمط الحياة: مدنيّ، شعبيّ، تعاونيّ أو عائليّ” ، يقول. “إلّا أنّ أسلوب الحياة هذا، كالمؤسّسات والمنظّمات التي أتاحته، لم يعد قائمًا. لا يعني ذلك عدم وجود طبقة عاملة، تمًاما كعدم وجود وعي منظّم لخدمتهم وتغذيتهم. ما هذه إلا سيرورة لتفكيك الهويّات في المجتمع الإسرائيلي: عليك تسويق نفسك في سياسة الهويات كي ترفع من قيمة المجموعة التي تنتمي إليها. الفئات التي تنجح هي العائلية، أم/جدّة ليبيّة، مغربيّة، تونيسيّة وما إلى ذلك”. وفي ظلّ هذا فقد مرّت الأصالة بسيرورة تصنيف عرقيّ. ” بكلمات مبسّطة، أصبح المطعم الشعبي، الذي كان يومًا ما مبنى اجتماعيًا-طبقيًا، مساحة تتوسطها الشعبية بمفاهيم عرقيةّ. 

إنّ انفصال المطعم الشعبيّ عن القيم الطبقية أو التفكير الطبقي والسياسيّ الذي كان أساسًا في إحياء هذا المكان يفسح المجال، بل يحثّ على سيرورة من التصنيف العرقيّ. ” لطالما كانت المطاعم الشعبية جزءًا من التاريخ الصهيوني للحركة العمّالية”، يذكّرنا بروفيسور مونتريسكو. “أنهت هذه الحركة وظيفتها التاريخية؛ ومجموعة القيم التي غرستها آخذة في الاضمحلال، ومعها العامل اليهوديّ. وبالتالي لم تعد هناك حاجة لوجود مطاعم تقدّم الطعام لتغذية العمّال اليهود. ما تبقّى من هذا هو صورة زائفة، طيف انفصل عن جذوره “. 

وبمجرّد عزل الصورة عن أصولها وجذورها، يسهل تسويقها.

“بالفعل يمرّ مفهوم المطعم الشعبي بعملية تسويقية، ينعكس الأمر في عدّة أصعدة. بدلاً من قائمة طعام ثابتة تشمل المقبّلات، الوجبة الرئيسية والتحلية بسعر معقول، تمّت تجزئة الوجبة إلى أطباق منفصلة بسعر مرتفع. بدلًا من الأصالة، يقدّمون لك تجربة على ما يبدو أصيلة بنكهة شعبية مسوّقة، شعبية في الطبق، أو باختصار، طائفية. والطائفية في إسرائيل اليوم شرقية، فالمشرقية ترتبط بالمستهلك الإسرائيليّ كنوع من أنواع من الشعبية”.    

أنت لا تصف هنا مجرّد سيرورة انفصال، بل نوعًا من التفريغ. 

“هذا مشتق إضافيّ لعصر ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه. لم تعد المطاعم الشعبية تقدّم طعامًا للعمّال، إذ أنّها توهمهم بوجود جدّة وهميّة، ليست في الحقيقة جدّة أي أحد. هم يقدّمون ما يعرف بالطعام المريح (كومفورت فود). بنظري هذا يعطي شرعية للعمليات العميقة في المجتمع الإسرائيلي ككلّ: في الماضي وصف المجتمع الإسرائيلي على أنّه مزيج من الثقافات والأعراق (Melting pot)، لكن المجتمع الإسرائيلي اليوم مكبّل في سياسات الهوية الآخذة في التفاقم، وبالتالي فإن التعبيرMelting pot لم يعد مواكبًا لواقعنا الحالي. يبحث الناس اليوم عن شيء له هوية محدّدة، وبالتالي فإن الطعام العرقي هو الطعام الذي يحلّ مكان المطعم الشعبي. فالمطعم لم يعد حقًا شعبيًا، لكنه يعكس مفاهيم العائلة والراحة النفسية، أو على الأقل الشوق لهذه المفاهيم. شوق باهظ الثمن، وجب التنويه”.

Photo by Lihi Berger

“ما زالت المطاعم الشعبية تقدّم أطعمة تناسب العمّال، كأقراص اللحمة والفاصوليا”، يقول تسافان. “حتّى طبق الشنيتسل الأشكنازي يقدّم اليوم في كلّ مطعم شرقيّ في إسرائيل. لكنهم يقدّمونه للطبقة البرجوازية. ينشأ هنا انعكاس مثير للسخرية، حيث يتناول البرجوازيون، الذين يعملون في مجال الهايتك وبالكاد يقفون من على الكرسيّ، الطعام المعدّ للأشخاص الذين يعملون بأعمال تتطلّب مجهودًا جسديًّا. أي أن المطاعم الشعبية تقدّم للطبقة البرجوازية الرواتب وظروف العمل التي تمكّنهم من ممارسة النشاط البدني، دون الحاجة لبذل مجهود. ومن هذا المنطلق فإنّ الطبقة الوسطى تتقمّص هويّة الطبقة العاملة، مما يمنع من العمال التمرّد عليها”. 

زد على ذلك أنّ مفاهيم المواساة والعائلية غير مرتبطة بالأشكنازية بحسب النزعة الإسرائيلية، يضيف مونتريسكو، “لذلك، ومع أنّ الطعام الأشكنازيّ كان من أسس المطاعم الشعبية، ومع أنّني أكلت في طفولتي العديد من المرات في المطعم الشعبيّ “طيف” في ألنبي، طبق يحتوي على الملفوف الأحمر، لحمة الإوز، وجبت فاصوليا أو حساء، فكرة وجود مطعم شعبيّ يقدّم طعامًا أشكنازيًا غير واردة سواء من ناحية ثقافية أو تجارية. فأكلة الكوارع مثلًا لا تنطبق عليها تسمية الطعام المريح”. 

بحسب ما ذكر ناتان دونفيتش، السبب وراء تلاشي شعبية المطاعم الشعبية ابتداء من أواخر سنوات الستين هو أنّ المدينة مليئة بالمطاعم الشعبية، مطاعم شرقية تحديدًا. لم يقتصر تفضيل المطاعم الشرقية على الشباب فحسب”. في كانون الثاني – يناير 1970، رثى عاموس كينان المطاعم التعاونية عامّة، وبيت برينر تحديدًا، في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: “بيت برينر ذاته، لكنه ليس مركزًا صاخبًا بالحياة الاجتماعية، بل مقبرة للذكريات”. السبب في ذلك بحسب كينان أنّ الحراك العمّالي الشاب لم يعد موجودًا”. 

وبالفعل، منذ أواخر سنوات السبعين لم يعد هناك ذكر في الأدب العبريّ للمطاعم الشعبية التعاونية التي تقدّم طعامًا “أشكنازيا”. تمّ استبدال المطاعم الشعبية الكلاسيكية بمطاعم شرقية، تبيع أسياخ اللحمة، الحمّص أو الفلافل. حتى سابقًا، يمكن للمرء أن يجد صعوبات في تقبّل الفكرة، على سبيل المثال في “شيشليك، سمسم و زيفزيف” للمؤلف إفرايم كيشون (“معاريف”، يناير 1955)، حيث يمازح ويصف معدته “التي تظل غريبة وعاجزة، تلك المخلوق القومي والهنغاريّ”، التي تواجه صعوبة في التكيف مع قائمة الطعام في مطعم عوفاديا، الواقع بجوار مكتب صحيفة “معاريف”، مع المأكولات الشرقية و “التوابل العجيبة”. 

تمامًا كما تكشّ معدة كيشون من الأطعمة، فإنه يكش منّ الكميات الهائلة والأسماء الأجنبية، ويشوهها عمدًا – كوس-كوسول، كباب مع بهارات، كوب-كوبون، “زيت ذرة وحمض الكبريتيك”، أو مع “رشّة من مسحوق الصنفرة”. قد يدّعي البعض بأنّ كيشون يُظهر في وصفه نوعًا من العنصرية، وهم على حقّ إلى حد كبير. لكن إلى جانب ذلك، ينظر كيشون، الذي يجد صعوبة في ابتلاع ابتسامته الخادعة، إلى مطعم عوفاديا ومطبخه الحارّ ذي النكهات القويّة كما لو أنّه تجسيد للذكورة الإسرائيلية الجديدة؛ إذ أن فشله في استيعاب وتقبّل المأكولات الشرقية، “التي كان مذاقها غريبًا إلى أبعد حدود” ما هو إلّا فشله في اجتياز اختبار الذكورة هذا. 

Photo by Styling by Nurit Kariv

فيما بعد، ستكون معظم المطاعم الشعبية التي سنصادفها في الأعمال الأدبية، مطاعم شعبية عرقية، ومطاعم شرقية أساسًا. تبدأ سلسلة “صور يافاوية”، كتاب مناحم تلمي (1979) الذي يتتبع حياة “جماعة يافا”، بحفلة كبيرة عند أبو حسن (عشرات المزّات، سمكتان كبيرتان، كومة من الأضلاع المشوية، عرق، بيرة، ويسكي). “الهمجي النبيل”، كتاب دودو بوسي الذي يصف فترة الشباب في حياة إيلي، فتى حساس من حيّ “هأرجزيم” يعاني من اضطرابات في الأكل وتائه بين والدته، مدمنة مخدرات في إعادة تأهيل، ووالده فنان غير تقليدي. يتتبّع أيضًا زياراته لمطعم موسى: موسى هو مطعم إيلي المحبّب، يطلب سيخًا من كبد الإوزّ، مع لفات الخبز والسلطات، يلتهمها وهو واقف “لقمات كبيرة وعصبية”، دون أن يأبه بإظهار عاداته الغذائية المضطربة أمام الجميع، أي أنّه يشعر وكأنّه في منزله.  في “أهفات دافيد” (1990)، يروي يورام كانيوك قصّة وزير الدفاع الخياليّة في حرب الأيام الستة، رجل استثنائيّ ومثير للجدل، يتم التعبير عن الموقف المزدوج تجاهه بطريقة راقية من خلال صورته المعلقة في كشك الفلافل. هذه بالطبع أمثلة قليلة من بين الكثير.

ولكن إلى جانب هذا كلّه، يبدو أن الأدب العبريّ لم يتطرّق بعد في نصوصه إلى النزعة الحالية والمثيرة:الجمهور الذي يتردّد للمطاعم الشعبية في الآونة الأخيرة. “أصبحت الطبقة العاملة الكلاسيكية تضمّ العاملين بمجال الهايتك وإلى جانبها طبقة البريكاريا – الطبقة الضعيفة المكوّنة من عمّال المقاول، اللاجئين، الطلاب والفنانين – العمّال غير المستقرين والمهمّشين الذين يعملون ضمن إطار غير منظّم”، يدّعي مونتريسكو. “ففي يومنا هذا، الإسرائيلي العادي لا يعمل في قطاع البناء؛ بل يكتب الكود، أو يدير البريكيريا الذي سيبني له – العمال الجدد الذين لا يُسمح لهم بتناول الطعام كما يجب، بينما يذهب هو لتناول طعامه في المطعم الشعبيّ”. 

إذًا تغيّرت شريحة الزبائن والـDNA الخاصّ بالمطعم الشعبي قد تغيّر، إلّا أنّنا لا زلنا نقصد المكان كي نشعر أنّنا في بيتنا، نحتضن الذكريات، نبحث عن نوع من الاستئناس بين مشاعر الغربة.

“في زمن الغربة والاغتراب، في ظلّ أسلوب الحياة الرأسمالي، تقدّم هذه المؤسسات الطهوية نوعًا من البديل عن المجتمعات الضائعة والمغتربة، تعويضًا عن وتيرة الحياة السريعة، عن اللحوم المجمّدة في الثلّاجة. لأنّنا وبالرغم من كلّ شيء نبحث عن المواساة. لربّما نشعر بالحَرج أيضًا لأننا أبعدنا أنفسنا عن أخلاقيات المجتمع العمالي واحتلال العمالة في كافة الميادين، ولربما أيضًا نتوق إلى الواقع الذي ينهار بين أصابعنا “. 

يميل الأدب الإسرائيلي إلى التطرّق للوضع القومي من خلال توظيف استعارات طهوية، لكنك لن تجد فيه وصفًا لتفكّك الطبقة العاملة من خلال تسويق المطاعم الشعبية وإضفاء الطابع العرقيّ عليها. هناك قدر كبير من السخرية في وصف مونتريسكو لتحوّل المطاعم الشعبية إلى “شعبية ملفّقة” و”جدّة على طبق”، في حين أنّ تصوير المطاعم التي تبيع الأسياخ، الحمص أو المطاعم الشعبية في الأدب العبري اليوم يخلو من التلوّن، المفارقة أو وجهة النظر النقدية. 

هناك قصّة واحدة تخطر في بالنا، قصّة استبقت عصرها إلى حدّ كبير وتصف سيرورة تجرّد المطعم الشعبيّ من قيمه الأساسية ذاتها. ليس من الغريب أن تكون هذه قصة “الحقيبة السوداء” ليهوشاع كناز (من ديوان “شقة بمدخل فناء”، 2008)، كاتب تميّز بأسلوبه الساخر. يصف كناز أبًا وابنه يقصدون مطعم حمّص؛ تجلس غالبية الزبائن في الخارج، على الرصيف، والأب يقرّر الدخول. سرعان ما تبيّن أن الوالدين مطلّقان والولد يعيش مع والدته. يجهل الأب ماذا يطلب ابنه عادة؛ في الواقع هو لا يعرف أنّ ابنه لا يحبّ الحمّص أساسًا. 

يطلب وجبتين من الحمّص مع حبّات الحمّص، بيضة مسلوقة، صنوبر، طحينة وحتّى لحمة. يواصل قراءة الصحيفة، يتحدّث بالهاتف، مع امرأة على ما يبدو، ولم يلحظ حتّى أن ابنه يأكل رغمًا عنه. كما أنّه لا يلاحظ أنّ ابنه غير مرتاح، ينتابه الخوف من إرِز، شابّ قد شارك في شجار وحشيّ والآن ها هو جالس يتناول الطعام بالقرب منهم. يقوم الأب ويذهب، تاركًا ابنه لينهي الوجبة التي لم يرغب بها. “الطعام في نهاية الأمر، هو منصّة للتواصل والارتباط”، يقول تسافان عن “الحقيبة السوداء”، وعند عدم وجودهما، يكون الطعام عديم المذاق والروح.

يقف الصبي، يشعر بالدوار والألم، يركض ليصل بيته لكنّه لا يتحمّل ويتقيّأ في الطريق المؤدّية إلى الساحة. يتجلّى مفهوم مطاعم الحمّص كمطاعم عائلية في “الحقيبة السوداء” في كونه فارغًا وباطلًا. من ينظر من الخارج قد يظنّ أن الأب وابنه غارقون بأحد الطقوس العائلية والذكورية الإسرائيلية – يتشاركون وجبة حمّص وبالتالي يقلّصون الفجوات بينهم- ولكن في الواقع الفجوة تتعمّق أكثر فأكثر. الدفئ، المودّة، الانسجام، الضمان المتبادل، كحال العائلة المفكّكة تلك، هم في أفضل الأحوال الحنين إلى ما كانوا عليه قبل الانهيار، فيما لو كانوا عائلة متماسكة يومًا ما.

على الرغم من أنّ المطاعم الشعبية في الوقت الحاضر تعكس المفارقة والحزن حول ما كان الوضع عليه وما تمّ فقدانه، من الممكن أن نواسي أنفسنا بأنّ الجوهر والقيم الأساسية التي ارتكزت عليها هذه المطاعم قد تمّ تبنّيها في الحيّز المنزليّ، وهي تنبض بين جدرانه. “مع أنّ المطعم الشعبيّ قد تبدّد من المشهد الحضريّ، أو يصحّ القول أنّه قد أعيد تصميمه لتناسب أسعاره حاملي بطاقة السيبوس، منازل كثيرة لا زالت محتفظة يالأطباق البسيطة”، يذكّرنا تسافان. “تقدّم الأهالي لأبنائها عند الغداء وجبات شعبية -شنيتسل، أرز وبطاطا مهروسة، ولوجبة الإفطار يدهنون شريحة خبز بالمربّى، وفي المساء يتناولون السلطة والعجّة وبهذا يختتمون يومهم”.   


بدآت نيتع هالبرين مشوارها كصحفية في “هعير” و “عخبار هعير”، وكتبت عن البيئه، الثقافه والادب. وعلمت الفلسفه وبحث المدن  في مدرسة الموهوبين “رون فاردي”. درست الفن الادب والفلسفه في جامعة تل ابيب . اليوم تكتب في صحيفة “هارتس”.