حساء البندورة بالبُرَك وراكوت كابوستا (صينية هنغارية بالأرز واللحم)
حساء البندورة بالبُرَك وراكوت كابوستا (صينية هنغارية بالأرز واللحم)

أن نعيد الزمن المفقود

العلاقة الوثيقة بين الطعم والذاكرة: عن الجذور الثقافية، ذكريات الطفولة، أو الشوق لشخص نحبه التي يسترق عودة إلينا مع كل قضمة ورشفة

د. دان عراف |

“لا شيء يبقى ويحفَظ، بعد موت البشر والصمت الذي يخلفونه وراءهم […] الطعم والرائحة وحدهما يطيلان البقاء، كالأرواح، محملين بعظمة الذاكرة”

عندما يعجز بطل مارسيل بروست في روايته “بحثًا عن الزمن المفقود” عن تذكر تجارب من طفولته، تقدَّم له بالصدفة كعكة مادلين يشبه طعمها طعم الكعك الذي اعتادت عمّته تقديمه له في طفولته “بعد غمسها بالشاي”، يفتح له الباب فجأة لعوالم الماضي، “لتتجلى الذاكرة أمامي على الفور”، يقول. 

يعكس هذا المشهد من “بحثًا عن الزمن المفقود” العلاقة بين الذوق والذاكرة بشكل شاعري ومؤثر، مبرزًا قوة الذاكرة المتأصلة في الحواس، خاصة حاسة الذوق. الغذاء هو عنصر مادي أساسي، شرط وجودنا الجسدي منذ لحظة ولادتنا وقبل ذلك حتى. أما الذاكرة فهي العنصر الأكثر مراوغة في حياتنا، حيث أنها دائمة التغير; حساسة لكافة التلاعبات العاطفية; يغمرها النسيان لتنفجر فجأة دون أي سابق إنذار. تمارَس العلاقة بين هذين العنصرين من خلال الحواس – تستيقظ الذاكرة عندما نرى، نشتم أو نتذوق شيئًا. 

من أبرز الأمثلة على هذا الارتباط بين الذوق والذاكرة هو إجابة البارون روتشيلد، من أهم رجال صناعة النبيذ الفرنسية والعالمية، للمراسل الذي سأله عن اسم أفضل نبيذ شربه بحياته، ليجيبه روتشيلد أنه لا يتذكر اسمه، لكنه يتذكر طعم النبيذ الذي شربه عندما كان في العشرين من عمره بصحبة فتاة جميلة. الشوق لاستعادة طعم طبق أو مشروب حفِر في وعينا هو الشوق للعودة للتجربة الأولية للوقت الذي فقدناه. 

تثير هذه الأمثلة الأسئلة والأفكار إجمالًا، لكن خاصة في هذه الأيام، بشأن العلاقة بين الطعم والتخليد وإحياء الذكرى. إن تحدثنا حتى الآن عن الذوق والطعم كتجربة تحفَر في الذاكرة، سنتحدث الآن عن الذوق كحيّز ذاكرة; آلية تخليد. الذوق هو واحد من الطرق التي نحدد من خلالها هويتنا، حيث أننا نعرّف عن أنفسنا باستخدام ما نحبه ونفضله، كذلك في مجال الطعام. تخليد ذكرى من توفي من خلال الربط بينه وبين النكهات والأطعمة التي كان يحبها هو في الواقع وصل حقيقي وحميم وحسي مع تجارب أساسية من حياته. سياسات الهوية واتجاهات ما بعد الحداثة تقترح تغييرات كثيرة في مجال التخليد: يتزايد التخليد الشخصي والخاص في مواجهة طرق التخليد “المعيارية” التي تفرضها الدولة، ما تنتج عنه طرق تخليد مميزة ومبتكرة. 

דגים חריפים לשני גבאי ז"ל
السمك بالصلصة الحارة الذي كانت تعدّه ميخال لابنتها، المرحومة شاني جاباي، كل يوم جمعة. تصوير: دان بيرتس، ستايلينغ: نوريت كاريف

قد تلاحظون عند التجول في المقابر قبورًا وشواهد مميزة ومختلفة لا تكتفي بنقش اسم المتوفى وتفاصيل شخصية أخرى له، بل قبور تبدو كقصيدة رثاء رنانة تبرز صفات وسِمات تميّز بها المتوفى وهي في غاية الأهمية للقريبين منه. على جزء من هذه نرى وصفات مفصلة منقوشة، على سبيل المثال، وصفة الجدة إيدا لبسكويت الجوز، أو يعنكالِه المخلَّد في وصفته الرائعة لكعكة البابكا – وهذا للربط بين المتوفى وبين الطعم الذي اعتاد، وهو حي، أن يدلل أحبائه به. 

تسعى المبادرة “صحن للغايب” لتخليد ضحايا الفترة الأخيرة بواسطة استرجاع أذواقهم وتحضير ما كانوا يحبونه. على سبيل المثال، ذكرى إيتاي برديتشسكي وزوجته هدار اللذين قتِلا في السابع من أكتوبر في كفار عازا مخلدة ومحياة في الكابوستا وحساء البندورة الذي كانا يحبّانه. النكهات والروائح المنبعثة من المطبخ تتحول بنظر رافيت، أم إيتاي، إلى كابسولات ذاكرة، تخليد وإحياء. 

ظهرت مبادرات شبيهة على المستوى المجتمعي أيضًا خلال السنوات الأخيرة، كذلك لمجتمعات تغيرت نكهاتها وأطعمتها، على سبيل المثال في مشروع “غرفة الطعام: قصص | وصفات | كيبوتس”، أو “ذاكرة في المطبخ” الذي يهدف لتخليد قصص الناجين من الهولوكوست بواسطة وصفات لأطعمة كانوا يحبونها. “وصفة مع ذاكرة” أيضًا تسعى لإحياء ذكرى جنود قتِلوا خلال خدمتهم من خلال تخليد وصفات أطعمة كانوا يحبونها. 

استخدام الطهي والخبز لإحياء الذكرى، وللعزاء والمواساة، أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية أيضًا، ما نراه في برامج الطهي التلفزيونية المختلفة. برامج الواقع، التي غالبًا ما تعتمد على القصص الشخصية، أصبحت أحياز تخليدات شخصية، يحكَم فيها على المتنافسين كذلك اعتمادًا على القصة الإنسانية المصاحبة للطبق الذي اختاروا إعداده وارتباطه بذكرى فقدان ما – ما يبرز دور الطعام في التخليد، على الأصعدة الخاصة والعامة والتجارية أيضًا. 

وربما يجد الكثيرون العزاء بالطعام لأفول ما كان وهجره للذاكرة. يربط بروست هذا العزاء بقوة ذاكرة الطعمة، أو طعم الذاكرة بالأحرى: “في اللحظة التي لامست فيها الكعكة شفتي، ارتجفت أحشائي وأصابتني دهشة; شعرت بالمتعة، متعة مجردة، لا سبب واضح لها، خففت أعباء الحياة، كما الحب، لتغمرني بكينونة ثمينة، أم قد لا تكون هذه الكينونة سواي أنا؟”