Heritage wheat stalks
تصوير متان شوفان

الحبوب والخبز في فلسطين في القرن السابع عشر

تخيّلوا أنكم تعيشون في فلسطين قبل نحو 400 سنة وأنكم تريدون خَبز خُبز طازج برائحة خبز شهيه. فمَن أين تشترون الطحين؟ كم يكلّفكم؟ وكَم ستكون حصة ضرائب السلطات العثمانية؟ وما هو شكل الرغيف؟

شاي واهابه |

المكان: فلسطين. الزمان: القرن السابع عشر. المنطقة هي تحت حُكم العثمانيين، الذين احتلّوها من المماليك عام 1516. يعيش فيها أقلّ من 10,000 شخص – مسلمون، يهود، ومسيحيون. استهلك أبناء الديانات المختلفة في مدن البلاد نفس الموادّ الخامّ المنتَجة محليّا أو المستورَدة من الخارج، وكانت لدى معظمهم أغراض وأدوات منزلية متشابهة؛ أمّا الفوارق في نمط الحياة فكانت تعود بمعظمها إلى فرق المكانة الاجتماعية – الاقتصادية.

تصوير دور كدمي

وقد أثّرت الفجوات بين الطبقات المختلفة في المجتمع المدَنيّ على عادات الأكل والتغذية، بما في ذلك استهلاك الحبوب والمعجّنات. وكما سنرى لاحقًا، احتلّ الخُبز مكانةً مركزية في تغذية سكّان البلاد في القرن السابع عشر وكانت له حصّة كبيرة من الأسواق المحلية. كانت الحبوب جزءًا من الطعام اليوميّ لجميع سكّان البلاد، لكنّ نوع الحبوب المُستخدَم وطريقة التحضير كانا متعلّقَين بالطبقة، وكذلك نوع الخُبز – فهناك خبز للفقراء وخبز للأغنياء.

في وثائق من تلك الحقبة يمكن تمييز إشارات عديدة إلى أنواع مختلفة من الحبوب. فالقمح (الحنطة) والشعير هما النوعان الأساسيّان المذكوران في سجلّات المحكمة الشرعيّة في القدس. كان الشعير يُحصَد عمومًا في الربيع والقمح في الصيف، حيث كانت الأسواق تفيض بمنتجات طازجة وتنخفض الاسعار. أمّا في أشهُر الشتاء، فكان يُباع القليل فقط من البضائع التي كان يُحتفَظ بها في مطامير خاصّة (أماكن تحت الأرض مُهيَّأة لطمر الحبوب). كانت كميّة المحصول متعلقة بفصول السنة والظروف على الأرض، مثل الأمطار، القحط، الجراد، والقدرة على نقل البضائع.

شراء الحبوب

زُرع القمح والشعير في قرى في أماكن مختلفة من البلاد، مثل مناطق القدس، بيت لحم، نابلس، غزة، طبريا، الناصرة، وعكّا. كانت القبائل البدويّة مصدرًا إضافيّا للمحاصيل والحبوب، وكان هناك أيضًا قمح مُستورَد، حيث يرِد في سجلّات المحكمة الشرعية في القدس ذِكر شراء قمح من مصر، ربّما بسبب جودة المحصول المصريّ أو بسبب قلّة المحاصيل في البلاد في ذلك الوقت. بالمقابل، كانت الحبوب تُصدَّر من البلاد في سنوات الخير إلى أرجاء الإمبراطورية العثمانية، مثل دمشق، مصر، رودس، والعاصمة العثمانية.

أحضر المزارعون القرويّون الحبوبَ إلى الأسواق البلديّة، وكان تجّار الحبوب في المدينة يشترون أحيانًا المحاصيل من القرويّين ويبيعونها في أسواق المدينة. طلبت السلطات من تجّار القمح أن يبيعوا بضائعهم في “ساحة الحبوب” كي تتمكن من مراقبة الجودة والسِّعر عن كثب، ضمان وَزن ممثّلي السلطة للقمح، وجباية الرسوم عن الأكياس.

طحن الحبوب

بعد الشراء، كانت الحبوب تُطحن يدويّا أو آليّا، وفق القدرة الاقتصادية للشارين. فقد طحنت النساء الفقيرات الحبوب بأنفسهنّ على حجر رحى يدويّ، فيما كانت تعمل لدى العائلات المقتدرة طحّانة، أو تُؤخَذ الحبوب إلى طحّان يأخذ جزءًا من الطحين كأجرة لعمله. كانت الطواحين منتشرة في المدن المختلفة في البلاد. ففي القدس على سبيل المثال، كان يمكن إيجاد طواحين يملكها أفراد، وهناك دلائل على تأجير طواحين وعلى طواحين بالشراكة. وتدلّ سجلّات لاحقة على أنّ الطواحين في القدس كانت تخدم سكّان المدينة من جميع الطوائف وتعمل أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع. كانت حجار الرحى في طاحونة الحيّ تشغّلها بهائم – حمار، جمل، ثور، أو حصان متقدّم في السنّ. ويمكن معرفة المزيد عن عملية طحن الحبوب في القدس من كلمات الحاخام جدليا مسيمياتيتش، الذي هاجَر إلى البلاد في القرن السابع عشر، والذي يروي عن عملية تنظيف الحبوب من الحجارة، إعادة الطحن، وغربلة الطحين:

“كانت المحاصيل تُداس في الحقل على الأرض، لذا كان فيها الكثير من الحجار الصغيرة، وكذلك النفايات، ما أوجب تنظيفها أوّلًا عبر منخلة، ثمّ انتقاء الحجار واحدًا فواحدًا، ثمّ أخذها إلى حجر الرحى الموجود في كلّ شارع. وحجار الرحى تطحن بالاستعانة بالخيل، لذا لا يُطحَن الطحين مرة واحدة فقط، حيث تبقى النِّخالة مع الطحين والسميد، وبعد ذلك تتمّ الغربلة، من أجل فرز النخالة والسميد والطحين، كلّ منها على حِدة”.

تصوير:متان شوفان

استُخدمت بذور القمح المطحون أيضًا لتحضير سميد قمح، ومنه أعدّ سكّان البلاد مأكولات مختلفة، على رأسها الكُسكُس. في سنوات الجفاف أو حين كان محصول القمح شحيحًا، اضطُرّ الخبّازون إلى خَبز خُبز من بدائل أرخص، مثل حُبيبات الحمّص أو الدخن الهندي – اللذَين اعتُبرا أقلّ قيمة من الشعير وكانا أقلّ انتشارًا بكثير من الشعير، وأقلّ طبعًا من القمح، الذي كان يُعتبَر الأفخر والأكثر شعبيّة.

انواع الخبز

مثلما كان هناك تنوُّع من الحبوب في الأسواق، كان يمكن أيضًا إيجاد أنواع عديدة من الخُبز الذي خُبِز في المدينة، إذ كان تنوُّع الخبز متعلّقًا طبعًا بكمية المؤونة المحلية ونوعيّتها. كانت أنواع الخبز الذي كان يُخبَز ويُباع في المدينة تتميّز واحدها عن الآخر بالطعم، الجودة، والكلفة، بحيث تناسب جمهورًا واسعًا من المُستهلِكين. وفيما يُعتبَر الخُبز اليوم منتجًا أساسيّا، كان في الماضي ترفًا من نصيب الأغنياء وحدهم. كان خُبز طحين القمح يُعتبَر في تلك الفترة الأجود والألذّ بين أنواع الخُبز، وحين كانت هناك حاجة إلى الاختيار بين طحين القمح غير الأبيض وطحين الشعير الأبيض، اختيرَ الأخير. استهلَك فقراءُ المدن الشعيرَ، الذي اعتُبر أقلّ قيمة من القمح، وبالتالي أرخص.

تصوير دور كدمي

والذي كان يختار أن يخبز خُبزه بنفسه ولا يشتريه جاهزًا من السوق، فقد كان يفعل ذلك عُمومًا في أفران مشترَكة في الحيّ، لا أفران بيتيّة. وكان سكّان المُدن يُحضِرون إلى صاحب الفرن العجينَ الذي حضّروه مسبقًا فيدخله إلى فرنه.

كان الخُبز الذي يُعَدّ في المنزل أسمك من الخُبز الذي يُباع في السوق، لأنّ هذا الأخير لم يكن يُخمَّر، لذا كان دقيقًا ومُسطّحًا، كما يخبر الحاخام جدليا مسيمياتيتش: “ولدى إعداد خبز في السوق لبيعه، لا يكون الرغيف سميكًا كما في سائر الدول، بل يكون مُسطّحًا ورقيقًا، ويُباع بالوزن. لكنّ صاحب البيت الذي يخبز الخُبز بنفسه فيصنعه سميكًا كما في جميع البُلدان”. كانت للخُبز المسطّح مزايا كثيرة عن الخبز المنتفخ المُخمَّر. فكان يمكن خَبزه في أفران بسيطة حتّى من حبوب غير القمح والشعير، وحتّى من البُقول، وتكويم الأرغفة واحدها فوق الآخر ونقلها بسهولة شديدة. كان يمكن استخدام الخبز الرقيق كأداة لجمع الطعام من أداة تقديم مشترَكة. إضافةً إلى ذلك، كانت إعادة خَبز الخُبز الرقيق تُطيل حياته.

تتيح قوائم إشراف المحكمة الشرعيّة وقاضي القدس على أسعار الخبز والمعجّنات أخذَ فكرة عن أنواع الخبز المختلفة التي كانت تُباع في المدينة في القرن السابع عشر مثل الكماج, كعك السمسم والجرك هو عبارة عن خبز غني محشو بالتمر او الجبنة والاعشاب

تصوير دور كدمي

نرى بوضوح المكانة المركزية للخُبز في قوائم طعام سكّان البلاد بطرق مختلفة: في الإشارات العديدة إليه في سجلّات المحكمة، وخصوصًا في سجلّات إشراف القاضي على الأسعار في الأسواق؛ في تعدّد الشكاوى التي وصلت إلى القضاة على الخبّازين وباعة الخبز بشأن جودة الخبز، وزنه، وثمنه؛ وكذلك في الإشارات العديدة إلى أغراض مرتبطة بالخَبز، مثل الأوعية الخزفيّة التي استُخدمت للعَجن والتخمير، التي كثيرا ما وُجدت في حفريّات في البلاد. تشير هذه الأمور كلّها إلى المكانة المركزيّة للخبز في قائمة الطعام المحليّة، في الماضي والحاضر على السواء.


شاي وهابه, حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ اليهودي واليهوديه المعاصره من الجامعه العبريه في القدس, حيث تخرج فيها من مشروع “رفيفيم” ايضا. وهو مدير مدرسة اعداديه في القريه الزراعيه في القدس

المزيد من المقالات من مجلة اسيف