رسم اشجار زيتون
رسم اوري كرول

شجرة الزيتون في الثقافة الفلسطينيه

مطبخي الفلسطيني: قصص عائلية وتاريخ

مزنه بشاره |

“لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا”

“لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا” – محمود درويش

توفى جدي قبل 7 سنوات، عشيّة عيد الغفران وقبل شهرٍ واحد من بدء موسم قطف الزيتون. في تلك السنة كانت أشجار الزيتون في بيته، من الصنف النبالي، مليئة بالثمار السمينة. تم زرع أقدم الأشجار في حارتنا في أوائل القرن الثامن عشر من قبل جد جدي، ولهذا أطلق عليها اسم العمارة – اي كرم الزيتون. قبل وفاته خطط جدي كيف ومتى نبدأ بقطف الأشجار، وتأكد من تنظيف ما تحتها حتى يصبح وضع الحصر وقطع النايلون وعملية جمع الحب المقطوف أسهل، وأصر على عدم البدء في قطف الأشجار قبل الشتوه الاولى. لقد هطل أول مطر مبكرًا في تلك السنة وجاء بعد يومين من وفاة جدي الحبيب، كأن السماء بكت موته.

شتوة تشرين، هي على الاغلب أهم علامة موسميّة في منطقتنا والتي تشكلة طلقة البدايه لموسم الزيتون. في ثقافتنا العربيّة هذا الموسم هو موسم البركة والوفرة حيث يتم فيه إنتاج معظم المونة المنزليّة السنويّة من زيت الزيتون والزيتون المخلل على اشكاله المتنوعه.

هذه الفترة، عند انتهاء موسم الحر والشمس الحارقة، تجعلني أقع في حب الخريف كل عامٍ من جديد. فبينما تملأ الحقول، الجبال و جوانب الجداول أشجارًا عارية من أوراقها، ترى شجرة الزيتون واقفة بتحدٍ بكل بهائها، مرتدية غطاء أخضرًا زاهيًا ومليئًا بالثمار. في هذه الفترة ايضا يتغير الجو: كقول المثل “بايام الزيت اصبحت امسيت” يحل المساء بسرعة، أسرع من اللزوم حسب رأيي، ويهب النسيم باردا لطيفا، كأنه جاء مساعدا للمنخرطين في أعمال القطف واقيا اياهم من الحر والجفاف.

لموسم القطف معان مجازية لا مثيل له; الوحده العائليّة، العمل الشاق، المثابرة، حب الأرض وذكريات الطفولة العديدة، كل هذا ياتي متناقضا للحداثة التي جاءت وفرضت نفسها على حياتنا. ابتعادنا عن مصادر غذائنا أبعدنا أيضًا عن التقاليد الزراعيّة مثل زراعة القمح وحصاده، التنقيب وجمع النباتات البريه أو زراعة البقوليّات, ووحدها التقاليد الخاصة بموسم الزيتون هي التي نجت وتم الحفاظ عليها، باعتبارها الخيط الأخير والوحيد الذي يربطنا بالماضي ويخلق لنا لحظات وذكريات مماثلة لتلك التي عاشها أجدادنا في الماضي. وهكذا ترى عائلات كامله-رجالا, نساء واطفال- محملين بسلالم, شوالات (اكياس كبيره) حصر وشراشف, ينهضون باكرا ويشدون الخطى بفخر وحماس تجاه اشجارهم.

مارا بالحدائق والسهول لا يمكنك تجاهل القطف، رائحته الخاصة – رائحة الزيتون الطازج الممزوجة برائحة التربة الرطبة من أول مطر ورائحة المواقد التي تغلي فوقها اباريق شاي الميرمية تخترق حواسك وتشدك اليها.

لا مفر من الغرق في الحنين عند الكتابة عن موسم الزيتون . كل شجرة في حارتنا مرتبطة بقصص، صور وروائح تعود إلى ذاكرتي في كل مرة أقوم بزيارتها. الشجرة التي سقطت منها أختي وكسرت يدها، الشجرة التي ربطنا بأغصانها القوية أرجوحة والشجرة التي أعتدنا فرش “شراشف النايلون” لنتناول فوقها طعامنا. ما زالت أصوات الضحك ,الغناء والبكاء في كثير من الاحيان, تتوارد الى مسمعي من كل صوب. أرى في ذهني صور ايدي مجعدة ومشققه تحمل فنجانًا من الشاي الساخن والكعك في استراحة من العمل الشاق. ساحة مليئة بأكوام الزيتون التي تم نظفناه يدويا من الأوراق والأغصان لأن جدي وجدتي لم يثقا بتنظيف الماكنة الحديثة في المعصرة. وابل من المطر يبللنا جميعًا حتى العظم. زيارة ليلية للمعصرة والتي تنتهي بتذوق الخبز الساخن، وشاي النعناع وطبق من زيت الزيتون بنكهة خضراء حارة.

قطفنا الزيتون سبع مرات منذ أن توفي جدي، – 14 مرة من غير جدتي- ولا تزال التقاليد مستمرة ومعها كذلك الذكريات. في بيتي لم يكن هناك أشجار زيتون. قبل أن نتزوج وأن ننتقل للعيش فيه، طلبت أن يتم زرع أشجار الزيتون في ساحتنا رغبة مني في غرس الانتماء والاستمرارية، وشعرت أنه من خلال هذا العمل سأحافظ على التقاليد وأنقلها إلى بناتي وفي المستقبل أيضًا لأحفادي. الأشجار التي تم غرسها هي من صنف مانزنيلو، صنف إسباني غير ملائم لإنتاج الزيت، لذلك طلبت من أبي أن يقوم بتركيب الشجر بحيث تم “لحم” أغصان من أشجار جدي لجذع أشجاري المقطوع. في غضون عامين كانت قد نمت أشجار الزيتون النباليّة، عالية وقويه نسلا لأشجار عائلتي المحبوبة والمميزة.

شجرة الزيتون في الثقافات الشرق اوسطية المختلفة

“لا بد من ان ينتهي الامر يوما بعلماء السياسه الى الاقرار بأن أكثر ما يقربنا بعضا من بعض، نحن سكان حوض البحر الابيض المتوسط، لا يتمثل حتى الان في البحث عن المصالح المشتركة أو الحنين إلى عصر ذهبي اشك في انه وجد حقا، بل في هذه القناعة المطلقة والنهائيه, المتاصلة في كل منا, بان لا زيت سوى زيت الزيتون، وهي قناعة يفترض منطقيا الا تخدش شعور احد, بما ان المسالة تتعلق اولا واخرا بحاسة الذوق “، يفتتح فاروق مردم بيك، المؤرخ والمؤلف الفرنسي التونسي، الفصل الخاص بالزيتون في كتابه “مطبخ زرياب”.

رسم غصن زيتون
رسم اوري كرول

ان منطقة البحر الأبيض المتوسط تبدا وتنتهي بشجرة الزيتون،فهي ضرورية للمنظر الطبيعي أكثر من كروم العنب والقمح مجتمعان. يستحيل تخيل الجبال والتلال بدون تلك الأشجار الحاضرة منذ فجر التاريخ في الجداريات والفسيفساء وكذلك في الشعر والأدب. الشهادات الأثريّة تظهر أنه منذ 7000 سنة كان لسكان حوض البحر المتوسط، الشرقيين بالذات، روابط فريدة مع هذه الشجرة.

بسبب أهمية الزيت لحياة الإنسان، أصبح رمزا من رموز الميثولوجيا وعنصرا ثابتا في القصص الشعبية ونُسبت إليه خصائص طبية قادرة على علاج أي مرض، إضافة إلى كونه مصدرًا مهمًا للضوء، وبالتالي فقد اكتسب مكانة مقدسة. لقد زعم المصريون القدماء أن الآلهة إيزيس هي التي علمت البشر أسرار زراعة الزيتون واستخراج الزيت منه، وكثيرا ما اكتشف ذكرها في لفائف البردى والمخطوطات الهيروغليفية على جدران المقابر والمعابد. أما الإغريقيون فقد نسبوا هذا الشرف للآلهة أثينا، آلهة الفن والعلم، والتي قامت وفقًا للاعتقاد بغرس شجرة الزيتون الأولى. مذكور في كتابات سوفوكليس، أديب إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا، أنّ “هناك شجرة لم نعرف مثلها، تنبت في أراضي آسيا وهي هدية من الآلهة ومحميّة بعيون الإله زيوس”. وبحسب الديانات التوحيديّة، حملت الحمامة غصن زيتون عند عودتها إلى سفينة نوح بعد الطوفان، وبالتالي أصبح غصن الزيتون أيضًا رمزًا للسلام وعلامة للتصالح بين الخصوم.

لقد بدأت ثقافة زرع أشجار الزيتون في الشواطئ الشرقيّة للبحر المتوسط، ويشرح العديد من الباحثين أنّ شجرة الزيتون انتقلت من هناك إلى مصر، ثم اليونان وبعد ذلك لشمال أفريقيا. وبعد مرور سنين عديدة وصلت إلى إيطاليا وبروفانس. من أجل توفير كل المعلومات حول شجرة الزيتون – التاريخيّة، الجغرافيّة، والاقتصاديّة وكذلك الأسطوريّة – هناك حاجة إلى أكثر من مجرد مقال قصير، لذلك سأركز وأتوسع في علاقة شجرة الزيتون بالثقافة العربية.

سكان الدول العربيّة، من أديان وطوائف مختلفة، عظموا عبر التاريخ شجرة الزيتون ونسبوا إليها معانٍ رمزيّة لم تحظى بها أي شجرة ثانيه. كما ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة “الزيتون”، وعدة مرات في ايات اخرى . في الايه 35 من سورة “النور”، قال تعالى ”  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” -صدق الله العظيم ” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة.

شجرة الزيتون كرمز للنضال الوطني

من الصعب الكتابة عن مكانة زيت الزيتون في المطبخ الفلسطيني دون أن نذكركون شجرة زيت الزيتون رمز للنضال الفلسطيني في حقه في الارض، مما يجعل زيت الزيتون الفلسطيني على الأرجح  أكثر طعام مسيسا في العالم بأسره. إن وجود أشجار قديمة –    أقدم كثيرا  من أشجار عائلتي – هي شهادة محسوسة لوجودنا واستمراريتنا منذ القدم . من خلال هذه الأشجار نحن نعرف أن جذورنا قد غرست في هذه الأرض قبل مئات السنين. لذلك، فمن وجهة نظر الفلسطيني، من المسيء اعتبار شجرة الزيتون “مجرد شجرة أخرى”; إن أشجار الزيتون هي ما تبقى، والتشبث بها والدفاع عن الأرض التي انغرست فيها، يُعتبر جزءًا من نضالنا الوطني.

بالإضافة، فإن اقتصاد عائلات عديدة يعتمد على أشجار الزيتون، حيث أنّ الزيت والثمار نفسها كافيّة للاستخدام البيتي على مدار السنة حتى موسم الحصاد القادم. وهكذا تعلو في هذا الموسم قضايا تتعلق بمن هو صاحب الأرض والمسيطر عليها. لأن أشجار الزيتون تنمو ببطء، وتستغرق سنوات حتى تؤتي ثمارها، فإن أي قلع، إفساد أو موت أي شجرة لا يصاحبها خسارة نفسية فادحة فحسب، بل هي إساءة حقيقية وخطر وجودي للعائلة كلها.

زيت الزيتون في المطبخ العربي

على الرغم من أن العرب لا يستهلكون نفس الكميات من زيت الزيتون مثل اليونانيين الحاصلين على الرقم القياسي في العالم، إلا أنهم بالتأكيد من بين الشعوب التي تكثر استخدامه. يجلب موسم الحصاد معه العديد من الأطباق المشبعة بزيت الزيتون الجديد من جودة عالية، الذي يتم عصره بحذر وغالبًا بعد قطف يدوي، حبة-حبه مع الحرص على اختيار وقت النضوج المثالي. في جميع اقطار البلاد العربيه تجد اطباقا احتفالية بزيت الزيتون فمن بين الأطباق الأكثر شيوعًا لهذا الموسم يمكن العثور على طاجن الأرضي-شوكي في الطرف الغربي من البحر الأبيض المتوسط ​​(نوع من كونفيت الأرضي-شوكي واللحوم مع الزيتون الأسود)، مزات لبنانيه تعتمد بشكل حصري تقريبًا على زيت الزيتون – لا دهون أخرى أو لحوم – مثل الخضار كونفيت والسلطات المطبوخة أو الطازجة.

مسخن فلسطيني بالدجاج
تصوير: متان شوفان

في المطبخ الفلسطيني أيضًا هناك أطباق تقليديّة مخصصة  لهذا الموسم. كان زيت الزيتون هو الزيت الوحيد الذي تستخدمه تقريبًا العائلات في الماضي، ووجود وعاء يحوي الزعتر وزيت الزيتون هو منظر ثابت في المطبخ. قراص او فطاير فلاحي- معجنات محشوة بالزعتر الأخضر والبصل مع الكثير من زيت الزيتون- يتم خبزها طوال فصل الشتاء، وهناك كذلك المسخن.

حاز هذا الطبق على مكانة مرموقة في ثقافة الطعام الفلسطيني، وهو طبق يوضع في مركز المائده ويؤكل سويًّا؛ كومة من الرغفان السميكه يغطيها البصل المطبوخ ببطء في زيت الزيتون تقدم فوقه قطع الدجاج الطرية التي يتم طهيها أيضًا في نفس الزيت ومن ثم تحميصها قبل رشها بالكثير من السماق الطازج.  نقسم الخبز باليد، نفسخ الدجاج ونأكل. سأقوم بتقديم وصفتي العائلية التقليدية والتي نشأت عليها وأعدها حتى يومنا هذا. الوصفة الثانيه هي وصفة لتارت الشوكولاطة مع التمر وزيت الزيتون المستوحاة من كعك الاساور -المتبع إعداده في الموسم أيضًا- عجينة هشة مع زيت الزيتون المتبل بالقزحة المحشوة بعجوة التمر. عجينة البسكويت استعملت كقاعدة للتارت، وفوقها دهنت طبقة من معجون التمر وطبقة من غاناش الشوكولاطة وزيت الزيتون حيث يعطي المزج بينهما نكهة جديدة رائعة وملمسا مثاليا للكعكه.

تارت شوكولاته مع زيت زيتون
تصوير: متان شوفان

المزيد من مجلة اسيف