تصوير ايتييل تسيون
ETL Zion

وجبة الغداء ما بين المنفى ورائحة الوطن لدى عمّال البناء الفلسطينيين

رغيف خبز صغير، خضار طازجة ومعلّبات عليها كتابات باللغة العربية هي أكثر بكثير من مجرّد وجبة غداء متوازنة

غدير نجّار |

عمّال بناء فلسطينيون يتجمّعون عند حاجز 300 في بيت لحم الساعة الخامسة صباحًا، في طريقهم لعبور الجدار الفاصل والمجازيّ الذي يفصل بين الضفّة الغربية وإسرائيل. يقضون يومًا طويلًا في العمل: كُثر يغادرون منازلهم بين الساعة الثانية والرابعة صباحًا، ولا يعودون إلّا في ساعات الليل المتأخّرة. الخضار الطازج، رغيف الخبز والقهوة التي يستهلكونها في طريقهم وأثناء العمل هم أكثر من مجرّد وقود يجعلهم “يصمدون” ساعات العمل الطويلة – إنّها تمنحهم شعور الانتماء والترابط الاجتماعيّ.

العام الماضي تمّ استصدار تصاريح لـ 140,000 فلسطينيّ للعمل بشكل قانوني في إسرائيل، و 40,000 آخرين يعملون في مستوطنات الضفّة الغربية. يعمل معظمهم في قطاع البناء. بحسب التقديرات، دخل حوالي 40,000 فلسطينيّ إلى إسرائيل بشكل غير قانوني بهدف العمل، وهم يعيشون بخوف دائم من أن يتمّ اعتقالهم.

تصوير: عدي يعيش

كلّ هؤلاء العمّال، القانونيين منهم والغير قانونيين، يعرّضون حياتهم للخطر لكسب لقمة العيش وإعالة عائلاتهم، وهم يعون أنّهم يخضعون للرقابة بشكل دائم. يتمتّع معظمهم بحقوق محدودة، ينالون أجرًا يوميا بدلًا من مرتّب شهريّ، وفي حالة تعرّضهم لإصابة عمل أو موت في موقع البناء فهم غير مستحقّين لأيّ تعويض.

يُعتبر ذهاب العمّال الفلسطينيين للعمل في المدن الكبيرة ظاهرة جديدة نسبيّا. قبل عشرينات القرن الماضي، عمل مُعظم الفلسطينيين كفلّاحين. أمّا بالنسبة للعمال الذين يعملون في مدن مثل يافا، حيفا والقدس فمعظمهم قدموا من دول عربية مجاورة. أدّت خسارة الأراضي والمدن الفلسطينية عام 1948 إلى تضاؤل فرص العمل. بدأ هذا الوضع يتغيّر عام 1967، والانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) كانت بمثابة نقطة التحوّل التي تسبّبت في زيادة كبيرة في عدد عمّال البناء الفلسطينيين في إسرائيل. إلّا أنّ الظروف العصيبة والتغييرات المستمرة في القوانين تُملي على هؤلاء العمال خوض معركة صمود لتلبية احتياجاتهم الأساسية.

حتّى قبل خروجهم من المنزل، يحملون معهم بعض المتاع: كلّما كانت حقيبتهم أصغر حجمًا، كلّما استغرقت سيرورة التفتيش من قِبل حرس الحدود الإسرائيلي وقتًا أقلّ. يُعتبر تقليل الحمل أكثر ضرورية بالنسبة لأولئك الذين يعبرون الحدود بشكل غير قانوني، إذ عليهم التأهّب للركض والفرار عند مواجهة دورية شرطة. ومع ذلك هناك دائما مكانة خاصّة للطعام، كما كتبت المهندسة المعمارية والكاتبة ابنة الضفّة الغربية سعاد عامري في روايتها “لا شيء نخسره سوى الحياة: رحلة دامت 18 ساعة مع مُراد” (Nothing to Lose but Your Life: An 18-Hour Journey with Murad).

تتنكّر سعاد العامري بزيّ رجل وترافق الجنائنيّ مُراد في رحلته غير القانونية من رام الله إلى موقع البناء في بيتح تيكفا. في روايتها، واحدة من الأصوات النسائية القليلة التي تطرّقت لمثل هذه القضاياتصِف تجربة تناول الطعام أثناء السفرة بل وتشارك فيها: رائحة فنجان الشاي الذي قدّمه لهم سائق الشاحنة وهو ينتظرون، موعد وجبة الإفطار الثابت، والحرص على إحضار كمية الطعام اللازمة لمدّة المكوث.

عبر الحدود، يتجلّى صراع الهويّة في الفلافل والحمّص

يدّعي الكثيرون أنّ العمال الفلسطينيين يأكلون طعامًا بسيطًا يذكّرهم بوطنهم، كالفلافل والحمّص، في أحد المطاعم القريبة من مكان عملهم. فمن النادر رؤية عمّال بناء فلسطينيين يتجوّلون في الشارع او يستهلكون منتجات وخدمات من السوق الإسرائيليّ. لا يعود السبب للأسعار المرتفعة فحسب بل إلى كون العمّال لا يشعرون بالراحة في المكان ويخشون المضايقات، لذلك يفضّلون البقاء في موقع العمل.

العلي، نجار فلسطينيّ من الضفّة الغربية وافق على التحدث معي دون ذكر اسم العائلة، أوضح مبتسمًا: “استطيع شراء رغيف الفلافل عندنا مقابل مبلغ شاقلين، فلماذا أدفع 18 شاقلًا في إسرائيل؟ ؟ ” حقيقة أنّ الفلسطينيين لا يملكون القدرة على شراء طعام من ثقافتهم في منطقة أخرى مثيرة للسخرية إلى حدّ كبير.

يتابع العلي:”عادة ما نأخذ معنا الخبز، المعلّبات والخضار الموسميّة. القهوة العربية أساسية جدًا، فلهذا نحمل معنا الفناجين دائمًا.” غالبًا ما ينفق العمّال ما بين 7 و 28 شاقلًا مقابل وجبة واحدة أو اثنتين في اليوم، كما ويحرصون على احتوائها لكمية متوازنة من البروتينات، الألياف، الفيتامينات والنشويات.

تصوير: عدي يعيش

من خلال محادثات مع عمّال بناء ومن متابعة امتدّت سنوات لاحظنا ما يلي: يشعر الفلسطينيون أنّهم خرجوا من “موطنهم” لحظة عبروا الحدود. ينعكس الأمر في المصالح التجارية التي أقيمت قرب الحواجز: ففي حاجز 300 تمّ استبدال المصالح التي خدمت السوّاح سابقًا بأكشاك لبيع الفلافل والشوارما والتي تُعنى أساسًا بعمّال البناء الذاهبين والعائدين إلى بيوتهم. يبيعون في هذه الأكشاك الماء، القهوة، الشاي والوجبات الموسمية الخفيفة كالذرة والفول. تتغيّر تشكيلة الأطعمة بحسب ساعات اليوم وفصول السنة، تلبية لرغبات الزبائن، إلّا أنّ جميعها تذكّر بنكهات الوطن.

وحتّى عادات تناول الطعام تختلف من حاجز لآخر. في بعض الحواجز من المعتاد جلب الأطعمة الجاهزة من البيت، وفي القسم الآخر يشترون وجبة الغداء فور وصولهم للأراضي الإسرائيلية.  يوضّح علي: ” في كثير من الأحيان يتمّ تأخيرنا في نقطة التفتيش بسبب الطعام الذي نحمله ولذلك نفضّل شراء الطعام من السوبرماركت بعد عبورنا الحدود. يبيعون هناك منتوجات فلسطينيّة بالأسعار ذاتها في بيت لحم.”

الوجبة التي تميّز العمّال الفلسطينيين هي رغيف الخبز، مع الشمينت، الخيار والطماطم، مع القهوة والشاي.  ومن المكوّنات الأخرى الشائعة هي معلّبات التونة، النقائق الفلسطينية “سينيورا” أو المعلّبات الأخرى الغنية بالبروتينات.

تصوير: ايتييل تسيون
ארוחת צהריים באתר בנייה. צילום: איתיאל ציון

شعور المنفى في الداخل

“في الداخل”، كما يُطلق بعض الفلسطينيين على المنطقة الواقعة داخل الخط الأخضر بعد عام 1948، يعترينا شعور المنفى في وطننا. لذلك، أحد أسباب امتناع العمّال عن شراء وجبة الغداء بعد عبور الحدود، غير الأسعار المرتفعة، هي الرغبة في خلق بيت بعيدًا عن وطنهم، كيان يعكس الثقافة واللغة التي يألفونها. هناك تأثير كبير للكتابة باللغة العربية على علب الطعام المشتراة من الدكاكين عند الحاجز، وللنكهات وروائح الأطعمة المألوفة.

كلّها أمور تساهم في خلق ما يسّميه عالِم الاجتماع بيير بورديو “هابيتوس”، وهو “نظام شخصي، ولكنّه غير فردي للتركيبة الداخلية، أنماط الإدراك، التصوّر والعمل المشترك بين جميع الأفراد التي تنتمي للمجموعة ذاتها أو للمكانة الاجتماعية ذاتها”.

ويوضّح أنّ الوطن هو المكان الذي يتمتع فيه الإنسان بأعلى درجة من المعرفة العملية، وهو المكان الذي يعرف فيه ما هي وظيفة كلّ شيء ومتى نستعمله. هو الحيّز الذي يشعر فيه الإنسان بالتعاطف مع سكّانه وتعاطفهم معه، حيّز يتوقّع تلقّي المساعدة فيه، من أشخاص معينين كالعائلة والأصدقاء. أصدقاء العائلة، المقربّون أو غير المقرّبين، يساعدون بعضهم في إيجاد عمل. يتشاركون الطعام خلال وجبة الغداء، يحتسون القهوة معًا، والأهم من ذلك – يعبرون معًا الحدود بشكل غير قانوني.

إنّ الشعور بالانتماء أساسيّ للعمّال ولسلامتهم. يحرصون على تناول طعامهم ضمن مجموعات صغيرة في موقع البناء، يُعتبر هذا سلوكًا دفاعيًا مفهومًا في حيّز يخشى فيه العمال غير القانونيين من الاعتقال، كما أنّ العمّال جميعًا على إدراك تامّ بإمكانية تعرّضهم لمضايقات.

طعام من المنفى يجلس في بيوتنا

تمامًا كالفلسطينيين العائدين من الخارج، العمّال الفلسطينيون العائدون “من الداخل” يجلبون معهم مكوّنات من ثقافة أخرى، كالمنتوجات ومستوى المعيشة. الطعام هو أحد أبرز هذه المكوّنات: الشمينت وقهوة عيليت مثلًا، أصبحوا من المنتجات الأساسية في بيوت العديد من الفلسطينيين في الضفّة الغربية. لطالما تساءلت لماذا، إلى أن تنبّهت لوجودهم في بيوت العائلات والقرى التي يعملون فيها بالبناء.

يستهلك أبناء هؤلاء العمال وأصدقائهم وجبات إسرائيلية خفيفة مثل البامبا، الفافل وعصائر الفاكهة المحلّاة بشكل يوميّ. ومع ذلك، فإنّ العلامات التجارية مختلفة – في السنوات الخمس عشرة الماضية، تم افتتاح مصانع أصحابها من الفلسطينيين لسدّ الطلب المتزايد، يقومون بإنتاج وجبات خفيفة بأسماء مماثلة لتلك الإسرائيلية، ولكن بأسعار أرخص.

ومن الأمثلة التي تعكس هذا الأمر بشدّة هي بيسلي بنكهة الفلافل. إذ أنّ الفلسطينيين الذين يأتون للعمل في إسرائيل لا يملكون القدرة على شراء الفلافل المحلّي، وحتى في بيوتهم يستهلكون هم وأفراد عائلاتهم فلافل بيسلي بوتيرة أعلى من تلك التي يستهلكون فيها الوجبة الأصلية. بسبب الاحتلال لم تسنح لنا الفرصة أن نبلور أو نعدّل ثقافة طعامنا – ولذلك سنستوردها من وراء الجدار الفاصل.