Barista making espresso
Photo by Shani Brill

عالم جديد؟ من تخمير وتحميص البنّ حتّى الماستر شيف

كيف تدهورت مكانة القهوة من شراب ذي أهميّة طقسيّة وعاطفيّة في الثقافة العربيّة إلى منتج يعدّ في الثقافة الإسرائيليّة بسيطًا، بخيسًا وحتّى متدنّيًا

نوعا برغر |

“في عام 2022، عدت من فرنسا إلى البلاد لاكتشف أنّ إسرائيل في الأعوام الأخيرة تخوض تجربة نوعيّة وإن صحّ القول “عصرًا ذهبيًّا” غير مسبوق في ثقافة القهوة.   انضممّت إلى العمل على معرض بعنوان “قهوة: شرق وغرب” الذي عُرض في متحف الفنّ الإسلاميّ في القدس، وقمت بتحرير وإعداد كتاب المعرض.  ومن خلال هذا العمل تعرّفت بشكل معمّق على تاريخ القهوة السوداء المتنوّع والمفاجئ في المنطقة. والتقبت بليؤور أسال خلال إحدى زياراتي لمقهى (HOC)، وهناك اكتشفت أنّ للقهوة التركيّة حياة وكيان يتجدّدان في إسرائيل – “سبيشلتي” (تخصّص) قهوة تركيّة، وهي عبارة عن تيّار يصبو باتجاه الجودة المتعارف عليها لدى المستهلكين الأمميّين وأصحاب الذوق الرفيع، ومع اسلوب تحميص البنّ الخفيف الّذي يحافظ على اللون الزاهي للبنّ، والأطعمة المختلفة كطعم الفاكهة أو الطعم الأكثر حموضة، وتعرف جميع هذه الأطعمة عادة بسياق القهوة السوداء.       

بعد ذلك بعامين، قدّم أسال ترشيحه لبرنامج الريالتي-للطبخ “ماستر شيف”. وخلال اختبار الأداء، قدّم إلى جانب الكعكة قهوة سوداء بيتيّة مع “تويست” (تغيير عن المعتاد). كانت المادة الخامّة الّتي استخدمها بنّ من سلالة “كتورا” (caturra) من كولومبيا (الّتي قضى فيها مدّة ثلاثة أشهر خلال فترة جائحة الكورونا) محمّصة بشكل خفيف ذات لون زاهي تعود إلى تيّار “السبيشلتي” (المختصّ). أثار اختيار أسال نقاشًا حادًّا بين حكّام البرنامج، وطُرح السؤال – هل اختيار تقديم القهوة خلال اختبار أداء لبرنامج طهي يعدّ ملائمًا ولائقًا؟ إذا كان الأمر كذلك – ما هي الطريقة الملائمة لتحضير القهوة؟ “إينستنت” (فوريةّ)، كما سمّاها أسال – أي صبّ الماء على البنّ المطحون مسبقًا، أو، كما أقترح إيال شاني، طريقة الطهي البطيء داخل الجذوة (غلّاية القهوة)، الّتي تتوافق مع المفهوم “الأصليّ” للقهوة العربيّة؟

أدّى بنا رد فعل الحكّام إلى التساؤل حول مكانة القهوة السوداء حاليًّا في المجتمعين الإسرائيليّ والعربيّ. هل هنالك طريقة صحيحة واحدة فقط لتحضير القهوة؟ لماذا تعتبر بعض الطرائق لتحضير القهوة “أصليّة”، بينما الأخرى لا تعتبر كذلك؟ وهل يوجد مكان للقهوة بشكل عامّ، والقهوة السوداء بشكل خاصّ في ثقافة الطهي المحليّ؟

درس مقتضب في تاريخ مشروب الجمعات 

سنجد خلال الألف عام لاستهلاك القهوة الموثّق، أنّها كانت ترشف كخلطة مغليّة من كرز البنّ، أي يتمّ غليها قبل تقشير حبّات البنّ.   ظهر هذا المشروب الّذي نعرفه اليوم ك”قهوة” – محمّص، وأسود، لأوّل مرّة في اليمن خلال القرن الخامس عشر وانتشر من هناك إلى منطقة الشرق الأوسط.  ورغم المعارضة الأوليّة الّتي أبدتها المؤسّسة الدينيّة الإسلاميّة ضدّ استهلاك القهوة، إلّا إنّ القهوة سرعان ما حظيت بمكانة المشروب الاجتماعيّ وبدّلت النبيذ المحظور والمذموم في هذا المجتمع (حرّم شرب الخمر في القرآن الكريم).   ومعها تطوّرت الأدوات المختلفة المعدّة لتحميص البنّ وطبخه، أكثرها شيوعًا هو إناء التحضير المعروف بأسماء متعدّدة منها: جذوة أو جدوة[NB1]  () ، الغلاية (غلاية) أو الركوة(ركوة) في منطقتنا، تسيزفي (cezve) في تركيّا، وبريكي  (μπρίκι) في اليونان وإبريق (ibrik) في الولايات المتّحدة وأوروبا. ظهر إلى جانب الجذوة الفناجين أيضًا، مفردها فنجان، وهي كؤوس الشراب الدائريّة والمنخفضة، بينما اختلط الأمر في المجتمع اليهوديّ حيث سمّيت الجذوة او الغلايه عن طريق الخطأ فنجان. 

وصلت القهوة إلى مناطقنا خلال القرن السادس عشر من اليمن، ومنذ ذلك الوقت أصبحت القهوة المشروب الّذي نعرفه اليوم.  وقبل ذلك، استهلكت القهوة كخلطة مغلية من فاكهة كرز البنّ، وتشكّل حبّات البنّ نواته.   ومع انتشارها في المنطقة من خلال امتداد الامبراطوريّة العثمانيّة (مّما أدّى إلى تسميتها “بالقهوة التركيّة”)، تجذّرت عادة طهي البنّ بالأدوات المخصّصة لذلك – الجذوة (الّتي يسميها الإسرائيليون عن طريق الخطأ “فنجان”، رغم إنّ الفنجان هو الكأس المعدّ لتقديم القهوة) كما وتجذّرت عادات استهلاك القهوة اليوميّة وطقوس تقديمها المختلفة.   وفي مدن الموانئ الساحليّة كحيفا، ويافا أنشئت المقاهي الأولى خلال القرن السادس عشر، الّتي سرعان ما تحولت إلى محطّات عبور لأولئك المترجّلين من السفن، والباحثين عن أماكن الترفيه لقضاء أوقاتهم في احتساء القهوة – خلال المساء أيضًا – والاستمتاع بأنغام الموسيقى وبمرافقة تدخين الأراجيل.  

تحميص القهوه في حيفا
تصوير شاني بريل

لم يكن التطوّر حول القهوة السوداء قصرًا على الثقافة الماديّة الواسعة فحسب، بل شمل تقاليد تقديم القهوة المتنوّعة والمختلفة الّتي قد تختلف من منطقة إلى أخرى.     كما يصف نيسيم كريسبيل في كتابه “قهوة: شرق وغرب”، تختلف تقاليد التعامل مع القهوة من مجتمع إلى أخر، ففي المجتمع البدويّ في النقب على سبيل المثال، تحوّل طحن حبوب البنّ إلى جزء أساسيّ من طقس تحضير القهوة.  تدعو أنغام طحن البنّ سامعيها إلى الانضمام إلى شرب القهوة، تُطحن حبوب البنّ باستخدام “المهباش” وهو عبارة عن جرن خشبيّ لطحن البنّ، الملقّب ب”أذن الجرن”.   وفي أوقات الحداد، يُعبر عن الألم الناتج من فقدان المتوفّى من خلال قلب فنجان القهوة السوداء على وجهه.  وخلال المفاوضات، يعدّ الامتناع عن شرب القهوة إشارة للمضيف لبدء الاستبانة والتوضيح، أو مصالحة “رافض القهوة”.  بينما يقدّم بدو النقب عادةً القهوة مُرّة، خالية من السكّر، تقدّم قبائل البدو الأردنيّة القهوة على ثلاث نكهات- “القهوة السادة” – وهي القهوة المُرّة دو سكّر – أمّا “القهوة الحلوة” – تقدّم بثلاث درجات من الحلاوة – “قهوة على الريحة” وهي مع إضافة سكّر خفيف، “القهوة المزبوطة” وهي بدرجة حلاوة معتدلة، “والقهوة الزيادة” وهي تقدّم مع سكر زيادة عن المعتاد.  

حافظت القهوة السوداء على مكانتها في الثقافة العربيّة المحليّة لمئات السنين – وتطوّرت حولها طقوس الضيافة والطرائق المتنوّعة لتحضيرها والّتي تختلف من منطقة إلى أخرى – من قرى البدو في جنوب البلاد وإلى مناطق الجليل والجولان في الشمال. لكن بينما تمّ الحفاظ على تقليد تحضير القهوة في الثقافة العربيّة لمئات السنين، حوّلت الهجرة اليهوديّة إلى البلاد في الواقع القهوة إلى منتج استهلاكيّ أساسيّ وتقريبًا أصبح مفهومًا ضمنًا، والعلامة التجاريّة للقهوة الأكثر شيوعًا بين الجمهور الإسرائيليّ هي “القهوة التركيّة” لشركة عليت، الّتي تحضّر بشكل فوريّ ودون طهي الّتي تلقّب ب”إينستنت”.

القهوة السوداء (التركيّة) في البلاد

أحضرت أمواج الهجرة من المجتمعات اليهوديّة الأوروبيّة إلى البلاد أساليب مختلفة وجديدة فيما يتعلّق في ثقافة المقاهي: حيث احتسوا الشاي والكحول أكثر – من القهوة. أحضر التمبلرز (فرسان الهيكل) القهوة “الغربيّة”، الّتي يتمّ طهيها في الإبريق أو البكرج وليس في الجذوة، لأوّل مرّة في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تقدّم في مقاهي المستعمرات الألمانيّة في القدس، تل أبيب، وحيفا. بعد عام 1948 بدّل أسلوب المقاهي الأوروبيّ قسم كبير من المقاهي ذات الطابع العربيّ الّتي كان مرتادوها يحتسون القهوة السوداء.

ورغم أنّ القهوة السوداء لم تحافظ على مكانتها ولم تكتسب احترامها داخل المقاهي اليهوديّة، إلّا أنّها رويدًا رويدًا أصبحت رمزًا لمعنى “الإسرائيليّة” الحديثة الّتي تعمّق جذورها في محليّة المنطقة ولا سيّما كرمز للرجولة العسكريّة خصّيصًا مع اختراع المصطلح داخل صفوف الجيش “باكال جنود الاحتياط” (פק״ל המילואים)، وهي عبارة معناها فنجان قهوة للطريق. خلال عام 1961، بعد موجة الهجرة اليهوديّة من البلدان العربية، من منطقة البلقان والشرق الأوسط، بدأت شركة عليت في تسويق القهوة التركيّة لأوّل مرة في البلاد، وتحوّل هذا المنتج إلى منتج أساسيّ على رفوف المتاجر والحوانيت. نأى اللقب “التركيّ” القهوة السوداء عن أصولها الإقليميّة في مخيّلة الإسرائيليّ، وطريقة تحضيرها الفوريّة “إينستنت”، سكب الماء الحار على البنّ المطحون بدلًا من الطهي الّذي يستغرق وقتًا أطول- حوّلها إلى متاحة سريعة، وعصريّة أكثر بالنسبة للإسرائيليّين الجدد. تحوّلت القهوة السوداء إلى المشروب الأكثر استهلاكًا من بين مشروبات القهوة في إسرائيل، ويمثّل استهلاكها اليوم حوالي- %50 من مشروبات القهوة.

على غرار العمليّة الّتي مرّ بها الحمّص – كما وصفتها المؤرّخة د. دافنا هيرش في أبحاثها – تشكّل لدى الجمهور الإسرائيليّ اليهوديّ نسقين من أنواع القهوة السوداء “الأصليّة” – العربيّ والإسرائيليّ. تعود القهوة السوداء الإسرائيليّة إلى شركة عيليت، تتميّز “بطعم الوطن والبيت”، ترتبط مع الخدمة العسكريّة، الكيوبوتس، والرحلة السنويّة. شدّدّ اختيار عليت لتسويق القهوة التركيّة في بداياتها بعلب الصفيح على الحنين إلى الماضي، وعكست فترة التقشف والتواضع الّتي خلالها تشكّلت ثقافة الطعام الإسرائيليّة البسيطة، المتاحة، المحليّة، لكن وفي نفس الوقت المصنّعة. وبالطريقة ذاتها روّجوا أيضًا صناعات الألبان والدواجن الإسرائيليّة. مقارنةً بالقهوة التركيّة-الإسرائيليّة، تختلف القهوة السوداء العربيّة بطريقة تحضيرها، والّتي قد تعدّ على الأرجح، إذا ما اعتمدنا على الرأي الّذي عبّر عنه إيال شني – أكثر بطئًا، يحتاج إلى عناية أكبر وبالتالي هو أرفع ذوقًا في مجال الطهي، كما هو الحال مع الحمّص الّذي يقدّمونه في مطاعم القدس الشرقيّة المختصّة في الحمّص.

بالتزامن مع تأسيس مكانة القهوة التركيّة في المجتمع الإسرائيليّ، ظهرت أيضًا في شمال البلاد قهوة ذات علامة تجاريّة – قهوة النخلة، الّتي لاحقًا تشعّبت إلى قهوة النخلة (المعروفة بأكياسها الخضراء) وقهوة النخلة المعروفة بأكياسها الحمراء. أسّس شركة نخلة للقهوة رفيق نخلة عام 1968، الّذي عمل كسائق أجرة (تاكسي) في حيّ الهدار في حيفا، اشترى محمص بنّ صغير في شفاعمرو بعد أن تعلّم تحميص حبوب البنّ العراقيّ الّذي تعرّف عليها في حيفا. سرعان ما تحوّل المحمص الصغير إلى مصنع كبير ينتج أوّل قهوة مع الهيل كعلامة تجاريّة تباع في الدكاكين والمحلّات التجاريّة.

وفي أعقاب الخلاف العائليّ الّذي أدّى إلى انقسام أفراد العائلة، أسّس أبناء شقيق السيد رفيق العلامة التجاريّة “النخلة”، وتابعوا استخدام الأكياس الخضراء والبيضاء. اختار نجل رفيق استخدام أكياس الفاكوم (عبوة شفط) الجديدة بلونها الأحمر بعد سفره إلى ميلانو الإيطاليّة. بينما أصبحت قهوة النخلة (بأكياسها الخضراء) علامة تجاريّة ذات طابع تقليديّ، توسّعت قهوة النخلة (بأكياسها الحمراء) أيضًا في مجال استيراد حبوب البنّ بتصنيف عالي الجودة (سبيشلتي-مختصّ) واستثمرت الشركة في الأتمتة ونظام رقابة الجودة بقيادة حفيد السيد رفيق، رعد، المدير الحاليّ للشركة. تعدّ شركة نخلة (بأكياسها الحمراء) ثاني أكبر منتج للقهوة في إسرائيل: ينتج المصنع في شفاعمرو ما يقارب الـ350 طنّ من القهوة المعلّبة شهريًّا، وتوزّع على 5000 نقطة بيع.

دفع نجاح العلامة التجاريّة لقهوة النخلة شركة شطراوس-عليت على إطلاق منتج منافس مخصّص للمجتمع العربيّ في البلاد – قهوة “أصلي”، حيث تمّ توزيعه مجانًا في البلدات العربيّة كجزء من حملة تسويقيّة شرسة وواسعة النطاق. وكانت ردة فعل شركة نخلة (بأكياسها الحمراء) اطلاق حملة إعلاميّة خاصّة بهم، والّتي عرضت شخصيّات تمتطي الخيول وسط معركة على القهوة العربيّة السوداء الأصليّة. اختفت العلامة التجاريّة لقهوة “أصلي” من الرفوف بعد عام من انتاجها.

تخمير وتتبيل البنّ

لكن وعلى الرغم من علامتها التجاريّة كقهوة “بسيطة”، إلّا أنّ انتاج “البلند” (الخلطة) من القهوة السوداء بعينها يعدّ مركّبًا. عادةً يشمل بلند (خلطة) القهوة السوداء على حبوب بنّ من سلالة “العربيكا” (coffea arabica) ذات النكهة القويّة والحموضة الأكثر ارتفاعًا، وحبون اللبنّ من سلالة الروبوستا (وإسمه العلميّ هو coffea canephora) الذّي يمنح القهوة قوامًا أكثر امتلاءً ومرارة مميّزة. على سبيل المثال، ركّب مؤسّس “قهوة حيفا”، وهو محمص في حيّ وادي النسناس الذّي أسّس عام 1982، بلند (خلطة) خاصّ بالمحمص من خلال تجربة دامت تسعة أشهر والّتي لم تخل من الخطأ. لقّب المؤسّس مصطفى بنّ العرابيكا الّذي يستخدمه في خلطته، “كولومبيا” بدلًا من الاسم الأصليّ عربيكا. وهذا خطأ شائع تجذّر بين الجمهور في المجتمع العربي، نعم إن القهوة الكولومبيانيّة تعدّ ذات حموضة مرتفعة نسبيًّا لكنّها متوازنة وملائمة للقهوة السوداء خاصةً في الطهي البطيء.

تصوير شاني بريل

تعدّ الحموضة في الواقع، جزءًا أساسيًّا من تركيبة القهوة السوداء والتقليديّة. سنجد لدى بعض العائلات، ما يسمّي ب”خمير القهوة” – وهي عبارة عن بنّ أسود الّذي تمّ طهيه لمدّة طويلة داخل وعاء، ومن ثمّ تخزينه في الثلاجة – في بعض الأحيان حتّى مدّة 20 عام. عند تحضير القهوة السوداء، يقوم صانع أو صانعة القهوة بإضافة القليل من الخميرة لتشديد نكهة القهوة وإبراز حموضتها. في بعض المناسبات الخاصّة، قد تكون عمليّة تحضير القهوة بطيئة وتحتاج إلى أربعة أيام من الطهي، يتمّ ترك القهوة على نار هادئة وخفيفة، ثم يصفّى، ويثرى بخمير القهوة، يترك ليرتاح قليلًا، وم ثمّ يتمّ طهيه مرةً أخرى.

ومن “الخميرة” – عودةً إلى النقطة الّتي بدأنا بها – إنّ ارتباط القهوة والقهوة السوداء على وجه الخصوص بعالم الطهي، هو ارتباط لا يقتصر على الابتكار والتحديث فقط، إنّما يحمل معه أيضًا التقاليد. يعتبر المزيج بين القهوة السوداء والتوابل جزءًا هامًّا من تاريخ هذا المشروب. والأشهر من بينها هو الهيل، وتعود استخداماته إلى تاريخ القهوة المبكّر; تمّ استخدام الهيل في مصر القديمة، يُضفي الهيل نكهة لطيفة للقهوة، وقد يكون مساعد على عمليّة هضم حموضة القهوة، وهي إحدى الخصائص الطبيّة الّتي تنسب إلى الهيل وفقًا للتقاليد.

في اليمن، يتمّ إضافة الحوايج ومزجها مع القهوة، خلطة من التوابل الّتي تشمل عادةً القرنفل، القرفة، الهيل، الزنجبيل وجوز الطيب المطحون. تضاف الحوايج وتخلط مع القهوة البيضاء اليمنيّة الأصل والأقلّ شهرةً من نظيرتها القهوة السوداء، لكنّها تحضّر بطريقة مماثلة- وهي طهي القهوة. سمّيت هذه القهوة بالبيضاء بسبب لونها الفاتح، الناتج عن عمليّة تحميص خفيفة بشكل خاصّ، وقبل نقطة “الانفجار” الأولى (الّتي تنتج من تحرّر الغازات المحبوسة خلال عمليّة التحميص، ويرافقها صوت انفجار شبيه بصوت انفجار الفشار الناتج عن تسخين وتحميص حبوب الذرة)، ومن ثمّ تبدأ تفاعلات اسمرار وتحمير البنّ. يطحن حبّ البنّ الأبيض مع خلطة حبوب نباتيّة، ويمزج هو أيضًا بالحوايج. وإذا واصلنا من إسرائيل إلى اليمن، لما لا نواصل رحلتنا إلى ليبيا – حيث هناك يتمّ مزج القهوة مع سائل إبرة الراعي (نوع من أنواع الخبيزة) أو خلطة منها، الّتي تمنح القهوة نكهة الزهور. أحضر اليهود الليبيّون معهم تقليد القهوة السوداء مع إبرة الراعي (نوع من أنواع الخبيزة)، وإذا قمتم ببحث استقصائيّ قد تجدون بعض الأمكان الّتي يمكنكم تذوق هذا النوع من القهوة فيها.

وماذا بعد؟

في العالم الاستهلاكيّ اليوم، المشروب ليس مشروبًا فقط. تحمل ثقافة الاستهلاك معها في بعض الأحيان توقّعات لتجربة فعّالة أو قصّة يرويها المنتج. يقرّب هذا التوقع المنتجات الّتي تعدّ بالنسبة للمستهلك أساسيّة ويوميّة إلى عوالم فن الأكل والطهي الرفيعة. لكن ارتباط القهوة بعالم الطهي ومكانتها كعنصر طقسيّ وعاطفيّ ليس نتيجة ولادة سوق “السبيشلتي” (التخصّص) ولا برامج الرياليتي. إنّها مغروزة ومتجذرة بتاريخ منطقتنا الطويل والقديم، والّذي في صفحاته أصبح للقهوة معنى عميق كمشروب يحتاج إلى عناية خاصّة وعمليّة تحضير دقيقة، مشروب يأخذ دور الوسيط في الخلافات، ويعبّر عن الحزن والألم الشديدين النابعين من شجن القلب. وهذا المشروب لا يوفّر الطاقة فقط، إنّما يحمل في طياته العديد من المعاني.

تصوير شاني بريل

كانت رحلتنا عبارة عن تذوّق أوليّ من ثقافة القهوة السوداء في البلاد، الّتي تعدّ متنوّعة، ثريّة، ومفاجئة، ونحن نتمنّى أن نفتح بابًا إلى أبحاث إضافيّة في مجال هذا المشروب الّذي بالإمكان أن نقول فيه الكثير ما عدا قول المشروب البسيط.


نوعا بيرغر طالبة دكتوراة للعلوم الاجتماعية في مجال القهوة في مدرسة الدراسات المتقدّمة لعلم الاجتماع في بريس، فرنسا.     يتتبّع بحثها ثورة الجودة في سوق القهوة في البراويل وفرنسا.  محاضرة وكاتبة في موضوع ثقافة وتاريخ القهوة في المجلّات التالية (هآرتس، هاشولحان، Monde, Gastronomica)، صانعة محتوى تحاضر في المناسبات والمهرجانات (سوهو هاوس، مهرجان القهوة في باريس، مهرجان القهوة في تل أبيب).   ذاع مؤخرًا صيت الكتاب الّذي قامت بتحريره “قهوة: شرق وغرب” (بشراكة مع يهيل شفير)، من إصدار المتحف للفنون الإسلاميّة في القدس.   

المزيد من المقالات من مجلة اسيف