فريكه في وعاء زجاجي
تصوير: متان شوفان

من فلسطين إلى تونس: قصة الفريكة

مطبخي الفلسطيني: تاريخ وحكايا عائلية

مزنة بشارة |

مزنة بشارة هي طبيبة أسنان وطباخة ماهرة ولدت وترعرعت في كفر قرع، تبحث مقالاتها المطبخ الفلسطيني من وجهة نظر تاريخية، عائلية وشخصية.

اعتدت في طفولتي، في كفرقرع، قضاء وقتي مع أولاد أعمامي في أرض سيدو سليمان وتيتا مريم. اعتدنا جميعنا انتظار أيام نيسان الحارّة، عندما كانت جدتي تبسط المِلايات على أرضية الشرفة وتنثر عليها حبوب الفريكة، مباشرة بعد حرقها في حقول القمح في الجليل. أذكر كيف كنا نستغّل كل لحظة تغفل بها جدتي ونأكل (بالخفاء) حفنات من الفريكة الخضراء الطرية، بنكهتها الإلهية الترابية المدخنة. أعتقد أن هذه التجربة هي ما جعلني أغرَم بالطعمات المدخنة عامة، وبالفريكة خاصة.

الفريكة – خلفية تاريخية

“رأيت على ضفة البحيرة (طبريا) مواقد مشتعلة كثيرة”، يكتب الخوري والباحث البريطاني تريسترام عن مشهد رآه عند زيارته للبلاد في القرن التاسع عشر، “سنابل قمح أحضِرَت من الحقول المجاورة كوّمَت على النار ونقلت بسرعة إلى قماش مفروش على الأرض لحظة بدأت سيقانها بالاحتراق … عندها دقّت النساء السنابل حتى أفرِغَت من حبوبها التي أكِلَت على الفور دون أي طهي أو تحضير”

تصوير: متان شوفان

وبالفعل، فإن الحنطة الخضراء المدخّنة مذكورة في المصادر التوراتية حيث يطلَق عليها اسم “ربيع محمّص بالنار”. مصدر الاسم “فريكة” هو الجذر ف.ر.ك.، الذي يصف الطريقة التي كانوا يفصلون بها حبوب الفريكة عن السنابل. طريقة التحضير التقليدية، التي ما زال من الممكن مصادفتها في حقول الجليل في نيسان، هي حصاد السنابل وهي ما زالت خضراء وحرقها، لحظة قبل أن تجف، في مواقد كبيرة في الحقل، ضربها حتى تنفصل الحبوب عنها، ثم طحنها وتخزينها للمونة.

من أين جاءت فكرة تدخين القمح أصلًا؟ تروي الحكاية الشعبية قصة قرية حرق حقولَها الغزاة. حاول سكان القرية إنقاذ جزء من المحاصيل التي كانت ما زالت خضراء واكتشفوا بذلك طريقة جديدة أخرى لأكل القمح. يقدّر الباحثون، مع ذلك، أن عادة حرق القمح بدأت عندما اعتادوا إفراغ مخازن القمح بعد فصل الشتاء، وأن المزارعين الذين كانوا بحاجة إلى حبوب متاحة اعتادوا استخدام القمح الأخضر حتى قبل أن يجف ويصبح جاهزًا للطحن.

من فلسطين إلى تونس

عندما كنا نتحدث عن الفريكة في سياق المطبخ الفلسطيني، وفي منطقة المثلث خاصة، كنا نعني المادة الخام نفسها: قمح أخضر مدخن، وكذلك الطبق الوحيد الذي كانوا يعدّونه منها آنذاك: شوربة الفريكة مع مرق دجاج مركز وغني بنكهات البهارات والخضروات الذي عادة ما كانت تضاف إليه حبوب الفريكة المطحونة ناعم. تعتبر شوربة الفريكة واحدة من أبرز الأطباق التي تميّز المطبخ الفلسطيني حتى يومنا. 

دجاجة محشية بالفريكة. تصوير: متان شوفان

في سن التاسعة فقط، وفي رحلة عائلية إلى مصر، حظيت بتذوق أطباق فريكة أخرى للمرة الأول مرة، كـ “الحمام بالفريك” الذي طالما كنا نراه في الأفلام المصرية. حظيت في مصر أيضًا بتذوق الفريكة بقوام آخر، فريكة مفلفلة، تطَهى كالأرز. لاحقًا، مع ظهور برامج الطبخ من العالم العربي ومطاعم الشيف الجليلية المستوحاة من مطابخ سوريا ولبنان، بدأنا نتعرّف على طرق أخرى لتحضير واستخدام الفريكة، أساسًا كحشوة لخروف يطهَى بطبخ بطيء.

“مع ظهور برامج الطبخ من العالم العربي ومطاعم الشيف الجليلية المستوحاة من مطابخ سوريا ولبنان، بدأنا نتعرّف على طرق أخرى لتحضير واستخدام الفريكة، أساسًا كحشوة لخروف يطهَى بطبخ بطيء.”

مزنة بشارة

يمكنكم إيجاد الفريكة في المطابخ الأخرى الممتدّة من بلاد الشام إلى شمال أفريقيا; على سبيل المثال “شوربة الفريكة بالمخ” التونسية، بيلاف الفريكة بلحم الضأن والبازلاء والصنوبر الأردني، الذي يحضَّر في سوريا بإضافة الزبدة واللوز، وفي لبنان مع الدجاج بدل الضأن. شمالًا من هناك، في تركيا، نجد “الفريك بيلابي”، طبق أناضولي يدمج الفريكة مع البرغل والبقوليات والأعشاب المختلفة.

أحرص اليوم على استخدام الفريكة في أطباقي كحبوب نشوية صحية، مغذية وصحية، وعادة ما أستخدمها بدل الأرز في الأطباق المختلفة; مع الخضار أو اللحم، في المقلوبة، أو كطبق إضافي مع المكسرات. بدأت مع الوقت أستخدم الفريكة في الأطباق غير العربية أيضًا، كالريزوتو أو البائيا.

سلطة فريكة بالأغشاب، الدجاج والفواكه. تصوير: متان شوفان

فريكة: وصفة بسيطة تقليدية

الفريكة الطازجة، التي تنتَج في أشهر الربيع عندما يكون القمح لا يزال أخضر، تتطلب وقتًا قصيرًا من الطهي نسبيًا – بمعدل الوقت المطلوب لطهي الأرز الأبيض. كلما كانت الفريكة طازجة أكثر كلما كان الوقت اللازم لطهيها أقصر وكلما كانت روائحها أحلى وأعمق. يمكنك اقتناء الفريكة في الأسواق ومتاجر الأغذية الصحية. ينصح بتخزينها في البراد أو الثلاجة للحفاظ على نكهتها المدخنة لفترة أطول.

الطريقة البسيطة والتقليدية لتحضير الفريكة: في قدر (يفضل أن يكون مضادًا للالتصاق) نسخن 3-4 ملاعق كبيرة زيت الزيتون، ونضيف له كأسًا من الفريكة المغسولة والمصفاة. نقلي حبوب القمح لمدة 3-5 دقائق تقريباً ثم نضيف ¾1 كؤووس ماء مغلي، رشة ملح والبهارات التي نحبها (من البهارات التي تلائم الفريكة: المردقوش، الزعتر، أو البهار). بعد الغليان نغطي القدر ونخفض النار. نستمر بالطهي لمدة 15-20 دقيقة أخرى حتى تمتص الفريكة السوائل بالكامل (يعتمد وقت الطهي على طزاجة الفريكة).


تقليدي أم معاصر؟ وصفتان للفريكة من مزنة بشارة