Illustration of man and woman with their backs to the viewer
رسم شاي لي هيرش

أصبحنا في المرّيخ – والطعام جاهز

المعرض “نزهة على المرّيخ” للفنّان والمصمّم عومر بولاك، المعروض حاليّا في صالة عرض أسيف، يطرح أسئلة عدّة حول المستقبل الذي ينتظرنا في عالَم الطبخ.

اساف ابير |

شاهدو: كيف ستتغير ثقافة الطعام بعد وصولنا نقطة اللا عوده؟ حوار يديره الكاتب اساف ابير.


يُعرَض العمل الفنيّ المركّب”نزهة على المرّيخ” للفنّان والمصمّم عومر بولاك في صالة عرض أسيف ويُعنى بسؤال يصعب إيجاد إجابة شافية عنه. فحين نخطو في “رواق محطة الفضاء” القصير، يمكن أن نشعر للوهلة الأولى بأنّ النظرة ليست نحو المستقبل، بل نحو الماضي، إلى عرض للذِّكريات. عبر “النوافذ” البيضويّة التي على الجدران يُعرَض مشهد رمليّ مائل إلى الحمرة عليه متحجّرات لموادّ خام منسيّة من الكرة الأرضية – آثار موز وأطلال قرنبيط. وعلى أرضيّة الرواق تعرض شاشاتٌ أفلامًا للقطات أوراق عُشب، ورود، وكذلك خنفساء تتجوّل على النّصل – كما في أفلام الطبيعة التي تُنتجها BBC. لا تسعى المقاطع إلى كسر أرقام قياسية في دقّة التصوير، بل تذكّرنا ما الذي نراه حين نستلقي على العشب في يومٍ خالٍ من الهموم: ذكريات الطبيعة، النقيّة مثل حُلم.

السؤال الذي أثاره هذا العمل لديّ مراوِغ لأنه يتعلق بحضارة الطبخ. فقد تحوّل موضوع التغذية على المريخ، دون أن نشعر تقريبًا، من تسلية لبعض المهووسين في هذا المجال إلى أمرٍ يُتداوَل به في وسائل الإعلام الرئيسية، وإلى بند في برامج مهنيّة لشخصيات فاحشة الثراء أمثال إيلون ماسك، الذي يستثمر مليارات في خصخصة غزو الفضاء. وتُخصَّص للأمر ميزانيات بحث وتطوير في “مختبر وسائل الإعلام” (Media Lab) الشهير في جامعة MIT. منذ سنوات، يتمّ العمل في مشروع “MIT Space Exploration Initiative” (مبادرة استكشاف الفضاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) على تطوير أنواع جديدة من الطعام للرحلات الفضائية الطويلة – طعام مُغذٍّ، آمن، لذيذ، إبداعيّ، قابل للتحلُّل كاملًا، جديد، ومختلف بما يكفي ليشكّل “مطبخًا محليّا” في الفضاء الخارجي، متحرّرًا من الثقافات الأرضية المحلية. هذه السنة استُنبتت بنجاح بذور حمّص في محطة الفضاء الدوليّة، وعام 2019 استُنبت قطن على القمر بنجاح، في المسبار الفضائي الصيني تشانج آه، الذي حمل أيضًا بذور بطاطا. لم تنبت هذه البذور، لأنه بعد ثلاثة أيّام من التقلّص غطّى القمرُ المسبارَ وتجمّد كلّ شيء. باختصار، يعمل الجميع على ذلك.

لكنّ الجميع يركّز على ذلك لأنه سهل، لأنه التحدّي المُغري تحت الأضواء. ولكن من الأصعب التفكير في الصورة الأوسع – ثقافة الأكل. فإذا واجهنا مستقبَلًا مُتخيَّلًا يشتمل على انقطاع للتقليد، عوَز، وتغييرات قسريّة، لن تقتصر المشكلة على “بمَ نُسمِّد”.

حائط شفاف ابيض مع شبابيك طائرهيظهر منها منظر مريخي
تصوير اريئيل افرون

فكيف سنواجه نحن، المُستهلِكين لا المزارعين، التغيير في العرض، التوفُّر، المميّزات، والنكهات الخاصّة بالأطعمة الأساسية والأكثر تميُّزًا؟ ماذا يتغيّر إذا أُعيدت كتابة كلّ فنّ الطبخ البشري ليقتصر على حفنة من الإمكانيات التي نختارها نحن او تُختار لنا ؟ اصبحت الزراعة المستقبليه المستوحاة من الخيال العلمي شيئ يتحدث عنه العالم بشكل جدي،لذا لا بد لنا من  البدء بالحديث الجديّ حول الاستعداد لتغيير بطعامنا  أيضًا – حين قد يُضحِي فنّ الأكل, ذِكرى.

ثمّة مكان للبدء بحوار هادئ ومتفائل، لأنه يبدو لي أنّ النزهة الحقيقية على المريخ ستختلف تمامًا عن العمل الفنيّ المركّب. فستكون مألوفة وسعيدة لنا جميعًا. في الواقع، نحن في ذروة الحدث.

لا تحتاج الصناعة الغذائية ان تتغير

راودتني هذه الفكرة حين تحدّثتُ عن العمل الفنيّ مع يانيف غور أرييه، الطبّاخ الرئيسي لشتراوس، وهو باحث ومترجم في شؤون المطبخ المحليّ. قال يانيف إنه في كل ما له صلة بالمفاجآت المستقبليّة، لا يحتاج نظامنا الغذائيّ إلى استعداد خصوصيّ – فهو مُروِّع أصلًا. وهذا واضح. يدخل قسم كبير من السعرات الحرارية التي نستهلكها إلى جسمنا كطعام مُستقبليّ غريب – مأكولات مُخترَعة من موادّ خام فُكّكت إلى عناصرها، قُلّلت قيمتها الغذائيّة، ومُنحت نكهات اصطناعيّة. وفق استطلاع دوليّ أُجري عام 2021، نحو 40% من السعرات الحراريّة المُستهلَكة في إسرائيل، ونحو 55% في الولايات المتحدة، مصدرها “طعام مُعالَج بإفراط” – أطعمة فقدتْ قيمة غذائيّة لصالح الاستدامة، السِّعر الرخيص، والتجربة الحسيّة. رقائق الخبز والشنيتزل في العالَم هي حلّ مستقبليّ لتزويد السعرات الحراريّة الرخيصة والمُمتعة. نحو واحد في المئة من الجنس البشريّ، 68 مليون إنسان، يأكلون اليوم في ماكدونالدز شرائح لحم متطابقة تمامًا، من حيث رائحتها ومذاقها. الحلّ ناجح.

كيف يتعامل النظام الغذائي مع انخفاض عَرْض الطعام، في كوكب آخر أو في كوكبنا؟

جهاز الغذاء يواجه هذه المسألة الآن. وهو يدعمها. السُّعرة الحراريّة الآمنة والمتوفّرة للجميع هي الرؤيا الأصيلة له، هي مهمّته. ولإنجاز هذه المهمّة، ثمّة حاجة إلى توحُّد وتقليص. معظم الطعام العالَمي اليوم يُنتَج من عشرات قليلة من أنواع نباتات الطعام وستّة أنواع من الماشية-من الاف اخرى متوفره. حتى الثورة الصناعيّة، كان التنوُّع كبيرًا جدًّا، ومع هذا نكاد لا نلاحظ نقصانها. لقد نجحنا في أنتاج عالم مطبخي كامل،من خيارات قليلة ومحدوده, ألن نُنتِج بفعل ذلك ممّا هو أقلّ؟

ساعدت الصناعات الغذائيه في دفع عالمنا باتجاه كارثة بيئيه, لكن حتى في مستقبل بائس ستتمكن من بيع سعرات حرارية رديئة لنا. على الاغلب ان ماكدونالدز ستبقى. اعتقد انه قد يكون اكثر ردائة حتى

هل ستختفي أطعمة؟ دون ان نلاحظ ذلك

لنتخيّل تغييرًا تستمرّ فيه الآلات من صنع رقائق خبز وشنيتزل، لكنها لن تكون مصنوعة من القمح الأبيض والدجاج المُدجَّن المعروف. بالتاكيد سناكلها، لكن هل ستشعر حاسة الذوق عندنا بالفرق؟ كيف سيؤثّر نقص أطعمة أساسية على عالمنا الغذائي؟ من الصعب أن نخمّن الجواب، لكن إذا اضطُررنا يمكننا محاولة الاستناد إلى تجربة الماضي. فقد اختفت مأكولات محبوبة عديده، بعضها حتى خلال حياتنا.

مرطبانات من مخزن طعام تحوي الكثير من المواد الغذائيه
تصوير اريئيل افرون

هل رأيتم العناوين الصحفية المتزايدة حول الانقراض المتوقّع للموز؟ الموز الحلو هو اشهر انواع الفاكهة في العالم، لكنّ العالم يأكل جنسًا واحدًا منه فقط. فليست هناك أجناس فرعيّة، بل نُسَخ فقط، والكثير منها في مَزارع عقيمة. الآن، كما هو شائع في الزراعة الأحادية، نوع عنيف من الفِطر, الذي لا بمكن لهذا النوع من الموز مكافحته، يهدّد بالقضاء على الموز في العالم.

وقد حدث ذلك سابقا. فقد انقرض الموز. في الخمسينات أيضًا كان يُؤكَل جنس واحد من الموز، جنس آخر هاجمه أحد أسلاف هذا النوع من الفطر – مرض بنما. في ذلك الوقت، لم يُعثَر على جنس آخر من الموز مقاوم للفطر ولذيذ. لذا أخذوا جنسًا من الموز مقاومًا ولكن ذا طعم مثير للاشمئزاز، تجربة قديمة فاشلة لم تنجح يومًا في اجتياح السوق. الموز الذي نعرفه اليوم ينتمي إلى صنف كافنديش، الذي حلّ محلّ موز غرو ميشيل. والآن هذا الصنف أيضًا في خطر.

اللّسان يتأقلم, فلحم البقر، الدجاج، والخنزير فقد مذاقه في القرن الماضي – نتيجة للحملة العالمية ضدّ الدهون التي أدّت إلى موجة عالمية لتربية حيوانات أقل دهنا، مع لحمٍ يجفّ بسرعة أكبر. هل ميّز أحدٌ ذلك؟ هل شعر أحد بثقب غذائيّ في قلبه في حفلة العيد؟ يمكنني تخيُّل مستقبل يستمرّ فيه سِحر اللحوم، حتى لو أُخذ اللحم مباشرةً من خلايا جذعيّة وأطلقته الآلات مُوحَّدًا. سنفقد الكثير، لكن حين نمضغ سنشعر أنّ القليل فقط ينقصنا.

لقمة مقرفة واحدة للجميع؟ في كاليفورنيا هذه موضة ناجحة

نجحت البشرية في تجاوز أسوأ سيناريو يمكن تخيُّله في مجال الطبخ. ففي السينما، تُصوَّر غالبًا أطعمة “جوع المستقبل” كوجبات مُوحَّدة من عصيدة بقوام مخاطيّ، أو “مكعّبات بروتين” تقليدية ومقزّزة – كما ظهرت في فيلم “ذا ماتريكس” الأول (1999) وفي “مُحطِّم الثلج” (1999)، وكلا الأمرَين موجودان ويُؤكَلان اليوم.

في وادي السيليكون يعيش مبرمجون  لأسابيع على مخفوق تغذية يُدعى سويلنت، يحلّ محلّ وجبة كاملة. لا يُذكّر ذلك بعصيدة مخاطية، لكنّ الحياة الحقيقية ليست فيلمًا. قبل ذلك كان هناك مخفوق شبيه يمكن إيجاده في الصيدليات – بديل الوجبات “إنشور”. وهناك أيضًا “مكعّبات بروتين”. في عدّة سجون أمريكية يتمّ معاقبة السجناء الذين يسبّبون المشاكل بوجبة تُدعى Nutraloaf – وجبة كاملة على شكل كتلة براز، أتحدّاكم أن تبحثوا عنها في الإنترنت وتروا إن كان هناك أيّ كابوس في مجال الطبخ لم يتمّ التعامل معه بعد.

ثقافة الطعام حسب “Mas Max”

حتى النوترالوف تعاملنا معه في الماضي، وتمكنّا من فعل ذلك. في بداية العصور الوسطى، فَتكَ وباء الطاعون الأسود بنحو نصف سكّان أوروبا ودمّر الاقتصاد ومجال الطعام. عُدنا إلى المُقايَضة والقلق من نزوات الطقس. وحين لم يكن هناك مفرّ، أكل الناس عُشبًا ووحلًا. لم نعِش مثل رائد الفضاء المتروك الذي جسّد شخصيته مات ديمون في الفيلم “المرّيخي”، الذي كان يزرع فيه بطاطا على المرّيخ، لكننا كنّا روّادا في عالَم صعب. ولم تكن تلك فترةَ وفرة في تنوُّع الموادّ الخام – على النقيض تمامًا من فترة الوفرة في أيّامنا. انتقل الناس ليسكنوا بجانب مستنقَعات وغابات، وجمعوا طعامهم وزرعوه وحدهم. في النصف الأول من العصور الوسطى، الذي ضربته المجاعة، نشأت ثقافات الصوم، الإقطاعية، وعادة اكتشاف الأطعمة. تبنّى الناس أنواعًا جديدة من البقوليّات، الفاكهة، الحبوب البريّة، ونباتات المستنقعات. في محادثة لطيفة حول مشروع “نزهة على المرّيخ”، ذكرت عالِمة الاجتماع دفنة هيرش حالة أحدث لدهاء مطبخيّ مقابل عوَز: ظاهرة “الرامن في السجون” في الولايات المتحدة، حيث أصبحث أكياس إنستانت رامن الرخيصة عملةً قويّة ومطبخًا إقليميّا كاملًا، مع عشرات طرق التحضير، الوصفات، والتراكيب الأصليّة، بما في ذلك تحويل النودلز إلى نوكي أو رقائق زبدة فستق مقرمشة. ابحثوا في يوتيوب عن prison ramen recipes لتتأكدوا أننا في أيادٍ أمينة. الإبداع في فنّ الطبخ هو غريزة سترافقنا إلى كلّ مكان. حتى في مستقبل مُتخيَّل ولا يمكن تصوّره تقريبًا، يُضطَرّ فيه الناس إلى البحث عن طعام كي يعيشوا، سنستمرّ في البحث عن تجربة مثيرة. فهذه حاجة بدائيّة لدينا.

خُلقنا لنأكل العالَم

البشرية مليئة بالتناقضات. فنحن نسعى وراء الراحة بلا توقُّف. نحن نخاف من التغييرات، لكننا خُلقنا من أجلها. ويصحّ ذلك حتمًا في الطعام. البلعوم البشريّ هو الأكثر مرونةً وتعدّدًا للاستخدامات في الطبيعة. فيمكنه أن يمضغ ويمصّ ويشرب تنوّعًا واسعًا من الأنسجة. إنه نادر في عالَم الحيوان، حيث تفرض القيود في حركات الفكّ على الحيوان الاكتفاء بأنواع قليلة من الطعام. فم التمساح الشبيه بالمقصلة لا يمكنه أن يمضغ أبدًا.

حاسّة التذوّق لدينا مُصمَّمة للتكيّف مع عوالِم جديدة. ليس فقط أننا الكائن الحيّ الوحيد الذي يطبخ ويأكل وجبات، فنحن من المخلوقات القليلة التي يمكنها التمتّع بالطعام. بالكاد هناك حيوانات يمكنها “شمّ الطعام من الداخل” أثناء مضغه. فلدى معظم المخلوقات، يجد الأنف طعامًا، أمّا اللسان، الذي يمكنه تمييز النكهات الحلوة والحامضة البسيطة، فيؤكّد أنّه آمن للأكل. وحده الإنسان يعرف مذاق اللوز أو البندورة المهروسة. والعالم اللانهائيّ الذي يُدعى “طعمًا” هو تجربة بشريّة.

يبدو أنه هو الذي رافقَنا ووجّهنا حين أتينا من إفريقيا، وبدأنا نسكن العالم ونتعوّد على المناخات والأطعمة المختلفة. يمكن الافتراض أنّ الموادّ الخامّ لما قبل التاريخ في جيبوتي وفنلندا أتت من عالَمَين مختلفَين. وقد وُلدنا مع قدرة وغريزة على التكيُّف مع كلّ شيء. فنّ الأكل والتكيّف مع المذاقات هما من أعضاء جسمنا. فحتى أثناء القراءة تتملّككم الرغبة في تذوّق شيء جديد. أليس كذلك؟

لذا أيّ تهديد مستقبليّ متخيّل في عالم الأكل يمكن أن يخيفنا؟ ربّما التهديد الأكثر غُموضًا: الثقافيّ. ثقافة الأكل، الوجبات، وتقاليد المائدة – كلّها تطوّرت معنا. وهي تشكّل جزءًا عميقًا وجوهريّا بالنسبة لنا، إلى درجة أنه يصعب تحديدها أو فهم ما يحدث إن فُقدت. لكن ما الذي سيحدث إذا اضطُرّتنا في المستقبل ظروف “مرّيخية” إلى أن نعيش بازدحام في كبسولات تتغيّر فيها ظروف الوجبات لدرجة يصعب تمييزها؟ ما إذا كانت لدينا كجنس بشريّ حاجةٌ اجتماعية عميقة وخفيّة إلى الطقس العالميّ للوجبة؟ وإذا كُسر شيء ما في هذا الطقس، فهل سنتغيّر حقّا؟

حتى هذا الأمر يمكن التفكير فيه بتفاؤل. الوجبات ليست حلًّا. فوفق الاعتقاد الشائع بين باحثي التطوُّر، الوجبات هي الأساس. يُعتقَد أنّ القِرَدة العليا التي ارتبطت مناطق التذوّق في أدمغتها بمواعيد وأماكن جغرافية – القرَدة التي أقامت ولائم مشترَكة – هي التي تطوّرت منها العائلات والمجتمعات ذات الروابط الداخلية. الوجبات ليست حاجة، بل هي نقطة الانطلاق.

لا يجب القلق من ثقافة الطبخ التي ستكون بعد ألف سنة حتى لو كانت ستأتي غدًا. فالطهو المُبهِج، المذاقات المنعشة، والطعام المُفرِح والجامع ليست مرتبطة بأيّة ظروف بيئيّة. فهذه الأمور تنبع من داخلنا وتنتقل معنا, وكلّ ما علينا فعله هو أن نستمرّ في تناول الطعام معًا. .

المزيد من مجلة اسيف