من “المفهوم ضمنًا” إلى “العبارة الرنّانة”: تطوّرات عبارة البلدي

من “المفهوم ضمنًا” إلى “العبارة الرنّانة”: تطوّرات عبارة البلدي

نوعا برغر |

عندما بحث دُخل صفدي وميخال فاكسمان عن اسم لكتاب الطهي المشترك الّذي أصدِر عام 2016 لم تخلُ عمليّة الاختيار من التردّد والارتباك قبل أن يستقرّوا على اسم “بلدي- أربعة فصول في الناصرة”، تقول فاكسمان: “عندما حاولنا اختيار اسم للكتاب كان هناك تردّد فعلي، كنّا على يقين أنّنا نبحث عن اسم يتوافق مع اللغتين العربيّة والعبريّة. فوقع الاختيار على اسم “بلدي” الّذي ناسبنا من حيث المعنى، فأصل المعنى المراد من الكلمة هو محليّ، ينبثق من الأرض، تتأصل جذوره في المكان، مّما جعله يتوافق كليًّا مع فكرة العمل العائليّ في مجال الأكل منذ ستة أجيال مضت في مدينة الناصرة، ومع ذلك خشينا الوقوع في مطبّ الكليشاهات والشعارات الفارغة من المعنى. وفعلًا، أحد الأمور الّتي لاحظتها منذ صدور الكتاب هو تحوّل المصطلح إلى وسيلة تجاريّة في الأسواق تُستخدم للترويج والبيع.  فيعرف جميع الناس أنّ البلديّ هي كلمة مرادفة للجودة.  وقد لا يعرفون ما المعنى ودلالة الكلمة، لكنّهم يعرفون دون أدنى شك أنّها ممتازة.  عندما تزورين الأسواق في المجتمع العربيّ ويتعرّف التجّار على هويّتك اليهوديّة، أوّل كلمة سيقولونها لك هذه البضاعة بلديّة، حتّى وإن لم تكن كذلك، بل زُرعت ونمت في دفيئة بلاستيكيّة، فهم يعرفون جيّدًا هذا هي الجودة الّتي تبحثين عنها”.  

من كتاب:بلدي- اربعه مواسم في الناصره
تصوير دانيا واينر

لكن ولا سيّما مع ازدياد طلب المستهلكين للمنتجات البلديّة، بدأت تتلاشى الخضار البلديّة من أسواق الخضار. تقول فاكسمان: “من المحزن مع سلالات البلديّ أنّه من الصعب اليوم الحصول عليها، وحتّى باتت تتقلص الآمال بالعثور على هذه السلالات في الأسواق أكثر من أيّ وقت مضى. قبل ثلاثة إلى خمسة أعوام كان بالإمكان العثور على الخضروات البلديّة كالطماطم البعليّة (تمار) في الأسواق القديمة مثل سوق خضار هاتيكفا، على الأقلّ مرّة في الشهر. كنتِ ستجدينها، صلبة، حمراء، جافة ويسهل الحفاظ عليها – لكنّها اختفت تمامًا. أمّا اليوم بائعو الخضار والمحلات التجاريّة غير مكترثين بالخضار البلديّة لأنّها ذات فترة صلاحيّة قصيرة ولا تصمد كغيرها من الخضروات على الرفوف وحتّى قد تكون أقل جمالًا.

ليس فقط الخضروات البلديّة اختفت من الحيّز العامّ، بحركتها من قرية بتير الفلسطينيّة إلى تل أبيب الإسرائيليّة، بل فرغَ المصطلح من جميع معانيه وفرغَ من دلالاته – وحاليًّا يُعاد شحنه من جديد.

ما هو البلديّ؟ من الحاكورة إلى مطابخ الأشباح

“بلديّ” هي كلمة عربيّة الأصل مركّبة من “بلد” – القرية، منطقة، مدينة، والياء ياء النسبة. ومعناها البلد الّتي أنسب إليها، القرية، الضيعة الّتي ولدت وترعرعت بها، أمّا في سياق الطهي-الزراعيّ – يتطرق المعنى إلى المنتوج الزراعي الّذي نما في “المكان”، المحليّ. ولكنّ معناها أوسع من ذلك- فهنالك غرض خاصّ منها، وظهرت عبرتان لتوضّحا الأغراض المختلفة من هدف المصطلح.

العبرة الأولى – ذروة جائحة الكورونا، أكتوبر 2020. أطلق الشيف إيرز كومروفسكي قائمة إرساليّات للطعام باسم “بلديّ شيك”، بمشاركة “كيوب كيتشين”، والّتي تدير “مطبخ أشباح” من شبكة مطابخ فنادق “فتال”. وفي مقابلة “لتايم آووت” من نفس الشهر، روى كومروفسكي أنّ نافذته الإلكترونيّة للإرساليّات (بوب- آب) “تمثّل الطهيّ الإسرائيليّ” وتشمل وجبات مثل “الرامن الصهيونيّ”، وهو عبارة عن خلطة من حساء الدجاج ووجبة جدته “اللوكشين” مع وجبة رامن اليبانيّة”.

العبرة الثانية هي اقتباس لحبيب داوود الجامع حواش لنباتات من البر ،شيف ومالك مشارك مع منيرفا داوود، لمطعم “عزبة” (في قرية الرامة) ومطعم “كاباكا” (يافا): “ليس من المفروض أن يكون المنتوج البلديّ جزءًا من الاقتصاد التجاريّ. على العكس تمامًا، يجب أن توزّع الخضار البلديةّ مجانًا ومن دون أيّ مقابل. الفكرة من وراء مصطلح البلديّ، هي المحصول الّذي تنتجه الحاكورة الخاصّة (حاكورة – حديقة صغيرة في باحة البيت يُزرع فيها الخضار وأعشاب التتبيل للاستخدام البيتيّ)، فيُطعم البستان أصحاب البيت المجاور له ويعيلهم. تعبّر فكرة البلديّ عن الرغبة في التزويد الذاتيّ والمستقلّ لقائمة طعامنا البيتيّ، وإن تبقّى شيئًا لم نستهلكه من منتوج حكورتنا – بالإمكان توزيعه على الأخرين.”

إذًا ما هو القاسم المشترك بين البلديّ كالعلامة التجاريّة لمطبخ “فيوجين” للمأكولات اليهوديّة-اليبانيّة الّذي يُدار من مطبخ تل أبيبيّ، وبين فائض منتجات الخضار من الحاكورة الّذي يوزّع على الأقارب والجيران؟ وإن نظرنا إلى هذه الأمثلة، استخدام كومروفسكي للمصطلح وتفسير داوود لأصل فكرة البلديّ، سنجد أنّ المعنى يمتدّ إلى أبعاد أوسع من الدلالة الجغرافيّة أو التطبيق الزراعيّ.

تغيير لفظي

في أيامنا هذه، يجري علماء الأنثروبولوجيا د. رافي جروسليك (من جامعة بن بن غوريون)، د. أريئيل هيندل (من جامعة تل أبيب) وبروفيسور دانيئيل مونتريسكو (من جامعة أوروبا الوسطى، فينّا) مشروعًا بحثيًّا عن أنثروبولوجيّة مصطلح البلديّ. يدوّن الثلاثة السيرة السياسيّة لمصطلح البلديّ، أي، يحاولون تعقب تاريخ المصطلح داخل المجتمع الفلسطينيّ والإسرائيليّ والعلاقات السياسيّة الّتي ارتبطت بالمصطلح. حسب ادّعائهم، يدخل البلديّ تحت “الفئة الزراعيّة- والطهي الغير قابلة للترجمة” في كلا المجتمعين. كما ذكرنا إنّ المعنى الحرفيّ للفظة بلديّ هي “قرويّ”، لكن يعتقد الثلاثة أنهّ من الصعب فعليًّا ترجمة المصطلح ويقترحون تفسيرًا: “البلديّ في الأصل مصطلح يدخل تحت فئة لغويّة ليست ذات دلالة سياسيّة مدوّنة، وتعود إلى حقل دلاليّ يتعلّق بالاصطلاح الزراعيّ والّذي يتطرّق إلى سلالات معيّنة أو إلى منتوج محليّ. لكنّها اليوم اصبحت مدوّنة ومشحونة سياسيًّا”.

كيف تحوّل مصطلح البلديّ من الحقل الدلاليّ الزراعيّ والمفهوم ضمنًا في المجتمع الفلسطينيّ، إلى مصطلح دارج في عالم الطهي مشحون سياسيًّا وفي الوقت نفسه خالٍ من المضمون تقريبًا؟ “على سبيل المثال، المصطلح “عضويّ” يدلّ على نقاط أو حقول عينيّة واضحة، بينما المصطلح “بلديّ” وعلى النقيض من ذلك يصعُب علينا فهمه أو الإشارة إلى الحقل الدلاليّ الواضح الّذي ينتمي إليه. ومع ذلك، يمكننا الإشارة إلى انطلاقة استخدام المصطلح، واقتراح بعض التفسيرات الممكنة للأمر. من سنوات الـ-30 وحتّى سنوات الـ-80، كان الاستخدام الأساسيّ لمصطلح “بلديّ” في المجتمع الفلسطينيّ في سياق زراعيّ، يدلّ على سلالات معيّنة، أو على منتوج طبيعيّ وغير مصنّع نما خارج الدفيئة البلاستيكيّة. لم يرد ذكره تقريبًا في الصحافة الفلسطينيّة أو الإسرائيليّة – ربما ورد ذكره ما يقارب مجموع 5-6 مرّات فقط”، يشير الباحثون الثلاثة.

تصوير:متان شوفان

بدأ التحوّل في سنوات الـ-90 – آنذاك بدأت الكلمة تظهر وتتردّد بكثرة في الصحف الإسرائيليّة. يشرح، غروسغليك هيندل ومونتريسكو: ״في تلك السنوات عُقدت اتفاقيّة أوسلو مّما أدّى إلى انشغال جماهريّ في موضوع الهويّة في كلا المجتمعين كما وأدّت الاتفاقيّة إلىّ دمج حضاريّ واسع بين كلا الاقتصادين، الفلسطينيّ والإسرائيليّ. بالإضافة أيضًا إلى توسّع عمليّة العولمة خلال سنوات الـ-90 الّتي نتج عنها اهتمامًا فائقًا في الثقافات المحليّة كردّة فعل مضادة، وهي ما نسمّيه بالـ ״العولمحليّة״ (وهو الدمج بين العالميّ والمحليّ، البلديّ). كنتيجة لذلك، تضاعف استخدام كلمة بلديّ – وفي عقد سنوات الـ-90 وجدنا ما يقارب 1،600-1,200 مرّة ورد ذكر الكلمة في الصحافة المكتوبة باللغة العبريّة. أصبح البلديّ مصطلحًا مغريًّا، وجزءًا من التحوّل العضويّ في المطبخ الإسرائيليّ، الّذي يرافقه أيضًا اهتمامًا بالبقول البريّة و״المحليّة״ في الطعام״. في مشهد الطهي الإسرائيليّ-اليهوديّ، يدّعي ثلاثتهم، ״يمرّ البلديّ سيرورة نشطة من الاحتكار، الاستغلال التجاريّ والتميّز السلعيّ. أيضًا برامج الطبخ لعبت دورًا هامًّا في تسليع مصطلح البلديّ. هناك، ومع انعدام علاقة الدم والقربى، يرسّخ المشتركون ادّعاء العلاقة بالأرض عن طريق اختيار المواد الخام ״البلديّ״.

في مقالة نشرت في مجلة “هشولحان (المائدة)” عام-2018، اقترحت الكاتبة الغذائيّة (ومديرة البرامج الجماهيريّة في أسيف) ميخال لفيت، أنّ موضوع البلديّ ينبع جزئيًّا من توق حضارة المدن العالميّة إلى الاستهلاك المحليّ. وفي الوقت نفسه، سنجد جذورًا في التقليد اليهوديّ والصهيونيّ للمصطلح، الّتي تأسست تقريبًا على ذات الفكرة، الارتباط بين الأنسان والأرض عن طريق المحصول والزراعة، وحتّى في إسرائيل هناك ثلاثة أعياد على الأقلّ في العام يدور موضوعها حول قداسة المنتوج الزراعيّ والمحليّ: عيد العرش (سوكوت)، عيد الأسابيع (شفوعوت)، والخامس عشر من آيار (توفي شفات). بينما تحتفل تلك التقاليد بالتين والزيتون، العنب والتمر، تجاهلت كليًّا سلسلة مطوّلة من الأطعمة الّتي تميّز المطبخ الفلسطينيّ، واليوم سلبت هذا البريق مّما نسب إلى المطبخ البلديّ لتتمتّع منه، مثل الخبيزة والجرجير. حسب ادّعاء ليفيت، فإن التمجيد الإسرائيليّ-اليهوديّ لمصطلح البلديّ، يثير تساؤلات هامّة وجذريّة حول “الاستيلاء والاحتكار الثقافيّ للطعام وظاهرة الجينترفيكيشن (الاستطباق) في البلاد. بمعنى، رفع اسعار المنتجات الغذائيّة الّتي كانت في الأمس أساسيّة ورخيصة للسكان المستضعفين وتصبح اليوم قيمتها تتماشى وتتزايد مع ارتفاع القيمة الثقافيّة”.

فعليًّا، تحوّل المعنى الأصليّ لمصطلح البلديّ من الدلالة الزراعيّة في المجتمع الفلسطينيّ، إلى علامة تجاريّة في المجتمع الإسرائيليّ: “في الأصل، البلديّ هو المنتوج الأقلّ حُظوة – طعام الفقراء والعامّة، البلديّ هو ما تنتجه الأرض دون عناء”، يخبرنا غروسغليك، “خلال سنوات الـ-90 تحوّل البلديّ إلى منتج ذي “قيمة”، أصبح علامة تجاريّة. وجدنا صحفيًّا يتساءل خلال فترة الـ-30، كيف يمكن أن يكون القمح البلديّ أغلى من القمح المستورد؟”.

هنالك تفسير أخر لموضوع اهتمام عالم الطهي اليهوديّ-إسرائيليّ، جاء في مقال لليفيت عن الخبيزةوالّذي نُشر في المجلّة العلميّة “أفكار عن الطعام” عام 2021، اعتمد مقالها على تدوين عدد المرّات الّتي ورد ذكر الخبيزة في النصوص المكتوبة، وفي نفس السياق أيضًا عدد مرّات المصطلح بلديّ. يقترح المنتجون والمستهلكون على ليفيت فكرة مفادها، “نودّ الارتباط مجدّدًا بالأرض والبلاد من خلال استهلاك الغذاء العربيّ ألأصليّ للبلاد. إنّ استخدام اللفظ العربيّ “بلديّ” لوصف الغذاء المحليّ، يمنح الكاتب وقرّائه إشارة ثقافيّة تربطهم في فضاء البلاد وتجعلهم يشعرون بالأصالة بشكل أعمق”. ومن الجهة الأخرى، تقترح ليفيت، أنّ البلديّ في النصوص العبريّة جاء كإشارة لطعام ينتمي إلى الأخر، المتدنّي، لتمييز المختلف عن الكتّاب وعن القرّاء المتفوّقين عليه.

بلديّ – إشكاليّة في التعريف

البلديّ ليس وحيدًا – أيضًا مصطلحات “كالتميّز” أو “الأصالة” أصبحت مصطلحات تحمل دلالات واستخدامات متعدّدة. لكن البلديّ من بينهم خاصةً، يستخدم اساسًا في السياق الزراعيّ والطهي. تمامًا كما يشير مصطلح “العضويّ” إلى العلاقة مع التربة والأرض، الطبيعيّ والانتاج الحرفيّ، هكذا البلديّ أيضًا، لكنّه أكثر عمومًا، ولا يرتكز على تعريف قانونيّ رسميّ بالإمكان تطبيقه، وبالتالي هو قابل للتفسيرات والقراءات المختلفة. إذًا تحوّل مصطلح البلديّ إلى عبارة رنانة “باز وورد” (buzz word – عبارة بالإنجليزيّة تعني، رائج، يثير “الضجة والاهتمام”) ولكنّها تفتقر إلى تعريف رسميّ. من هذه النقطة، تقصُر الطريق إلى الاستخدامات الّتي آخذة بالابتعاد عن الأصل الاشتقاقيّ للمصطلح، لكن أيضًا في حقل الأبحاث الأنثروبولوجيّة والتاريخيّة الّتي تستعرض شحن مصطلح البلديّ بالمعنى – وتفريغه منه.

تصوير:متان شوفان

يعتمد الاستخدام الحرّ للمصطلح بلديّ من قبل اصحاب المطاعم، الطهاة والمستهلكين، على انعدام المعلومات الدقيقة بكلّ ما يتعلّق بتعريف المصطلح، وأيضًا بغياب مصادر الخضار والفاكهة: “على سبيل المثال، قد ينتج النقص بالمعلومات وعدم الدقة فيما يخصّ البلديّ عند استخدام المصطلح في مطاعم تل أبيب، بالعزل الجغرافيّ للضفة وعدم قدرة سكان تل أبيب الدخول والتجوال في هذه المناطق”، يوضح داوود، “تسنّى لي لقاء أصحاب مطاعم الّذين اخبروا أنّ الزعتر الّذي حصلوا عليه هو فعلًا بلديًّا، نما في الأحراش البريّة، بينما أنا أعلم علم اليقين أنّ هذا الزعتر زرع في أحواض في كروم الزيتون. لا أقول أنّه غير جيّد، لكنّه من المؤكّد ليس بلديًّا، بسبب خضوعه لعملية الري. يحتاج المنتوج البلديّ إلى الصبر والتأني، وينمو ببطء، وله علاقة وطيدة وثابتة مع مواسم السنة والفصول، يزهّر خلال فترة محدودة، ولا يحتاج إلى الري، إنّما نما بزراعة بعليّة [زراعة موسميّة تعتمد على مياه الأمطار فقط].”

يضيف غروسغليك، هيندل ومونتريسكو، أنّ المحاولة في تعريف البلديّ “كسلالة أصليّة” هي محاولة مركّبة، ويضيف غروسغليك: “فإنّ فكرة الأصليّ هي أمر نسبيّ تتعلّق بما نتعرّف عليه ونقيّمه كذي رابط أو علاقة بالتقليد الزراعيّ المحليّ. وليس كلّ ما نسمّيه “بسلالة وليدة المكان” هي بالضرورة وجدت دائمًا في هذا المكان: بشكل عام، يشير المصطلح بلديّ إلى سلالة “أصليّة” نتجت عن الزراعة المحليّة – ووجدت في المكان قبل وصول سلالات أخرى. وفي تفسير أوسع، يشير المصطلح بلديّ إلى سلالات البلاد الّتي سبقت ظهور الحضارة. لكنّ بالطبع إنّه أمر نسبيّ – وفي نهاية المطاف – البلديّ هي فئة منظّمة اجتماعيًّا. وهذا يعني، أنّه لن يحصل كلّ منتوج محليّ على علامة البلديّ، فقط تلك المنتوجات المرتبطة من حيث المبدأ والمفهوم بفضاء الزراعة العربيّة. حتّى لو نمت المنجا هنا في البلاد، هي ليست “بمنجا بلديّة”. إنّ الماعز بلديّ – نعم، فاكهة المشمش بلديّة – نعم بكلّ تأكيد. رغم وإن بحثنا عن جذور هؤلاء في الماضي البعيد، سنجد أنّهم لم يكونوا هنا دائمًا.”

يقترح الأشخاص المهتمّون بالطعام أيضًا تعريفات وتسميات مختلفة لمصطلح البلديّ، وقد تكون في بعض الأحيان اقتراحات شخصيّة انبثقت من الذكريات والذاكرة الجماعيّة. على سبيل المثال، بالنسبة لداوود، البلديّ هو كلّ ما زرع في الحاكورة المجاورة للبيت، بينما بالنسبة لسامي التميمي، شيف ولد في القدس، ومؤلف كتاب “القدس” (مع يوتام اوتولنجي) وكتاب “فلسطين”، البلديّ “هو تلك النساء من القرى المختلفة من جميع أنحاء البلاد، واللّواتي جئن حاملات بضائعهنّ لاجئات إلى الأحياء يتجوّلن بين البيوت ليبعن منتجات قراهنّ لسكان البلدة القديمة. كانت أمي تشتري أي شيء أحضروه تلك النساء معهنّ، بالنسبة لي هذا تعريف البلديّ”.

في المجتمع الفلسطينيّ – بين السياسيّ والمفهوم-ضمنًا

تقترح عالمة الأنثروبولوجيا مينلي من خلال مقالها ״Resistance is Fertile״ (الّذي نُشر في المجلّة العلميّة “جسترونوميكا في نوفمبر 2014) أنّ المصطلح بلديّ في المجتمع الفلسطينيّ تحوّل إلى أداة “للمقاومة-الزراعية”، مقاومة سلميّة من خلال الممارسات والتطبيقات الزراعيّة. وهي تستند في ادّعائها على واقع المجموعات الفلسطينيّة الّتي اختارت مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ في الضفة عن طريق استخدام “البلديّ” لتعبّر عن احتجاجها على سيطرة الزراعة الإسرائيليّة على الموارد الفلسطينيّة من جهة، ومحو التراث الزراعيّ الفلسطينيّ من جهة أخرى. تدّعي مينلي، أنّ البلديّ تحوّل إلى أداة الّتي يطالب الفلسطينيّون من خلالها إعادة السيادة (وهي ما تسمّيه في المقال reclaiming) على موروثهم الزراعيّ وعلى الأراضي المحتلّة، وتسمّيهم “مزارعو “الجريلة” الفلسطينيّة”. عن طريق توثيق العلاقة بين المحليّ والاحتجاج السياسيّ، يقاوم أولئك الفلاحون اقتلاع الجذور الفلسطينيّة – حرفيًّا ومجازيًّا – ومحو المحليّ والسكان الأصليّين من خلال جدار العزل الفاصل الّذي يجتث الاستمرار والتواصل الفلسطينيّ.

تدّعي مينلي، أنّ البلديّ يمثّل أمرًا أكبر من معنى “المحليّة”. بالنسبة لها، يمثّل البلديّ العلاقة الوثيقة بين الفلسطينيّين وبين أرضهم، منتجاتهم الزراعيّة الّتي تعيلهم، ووطنهم، كما وتمثّل الاشتياق والحنين إلى سبل العيش وماضيهم الّذي بات مهدّد بالاندثار والاقتلاع. يواصل التميمي فكرته: “معنى كلمة بلديّ في مضمونها الأوسع، بالنسبة للفلسطينيّين، هي قريتي، أرضي، الّتي زرعتها واعتنيت بها، لا يهمّ إن كان الأمر من أجلي أو أجل البيع للآخرين – بكلمات أخرى إنّه مصطلح مشحون بالعواطف والذكريات. وفي دلالته السياسيّة، دون أدنى شكّ يحمل البلديّ معنى جوهريًّا بالنسبة للفلسطينيّين – ولبعضهم هي أراضيهم الّتي كانت بالأمس ملكهم – أمّا اليوم استلبت وضاعت منهم، فباتت للمحتلّ.”

من ناحية أخرى، يتحفّظ غروسغليك هيندل ومونتريسكو من هذه الفكرة ويعتقدون: “أنّ مينلي ربما ذهبت بعيدًا عن المعنى في ادّعائها. وفعلًا، يبدو أنّه تمّ استخدام المصطلح بلديّ بشكل متعمّد لأهداف سياسيّة، كأسلوب مقاومة من خلال الأمعاء-الوطنيّة أو الأمعاء-المحليّة، على سبيل المثال، كما تمّ في مناطق القرى الفلسطينيّة ولغا وبتير. في قرية بتير، المصنّفة كموقع تراثيّ في اليونسكو، وبتمويل السلطة الفلسطينيّة، تحوّل الباذنجان المحليّ في قرية بتير إلى لاعب قوميّ. لكنّ هذا الاستخدام مقصور على حلقة عينيّة من الناشطين السياسيّين، بينما الاستخدام التجاريّ للمصطلح هو أوسع من ذلك، ومع ذلك الاستخدام مقصور أيضًا على الطبقة الوسطى والعليا المهتمّة باستهلاك الزراعة المحليّة الفلسطينيّة الّتي بطبيعتها أكثر صحة وعضويّة.”

في هذه الحلقات، ارتبط المصطلح البلديّ بما يسمّيه غروسليك، هيندل، ومونتريسكو “ريادة الأعمال التجاريّة العالميّة الّتي تسوّق البلديّ داخل إطار الحوار عن المحليّة والأصالة”. يعكس ناصر أبو فرحة، مدير منظّمة التجارة العادلة “كنعان فلسطين” (Canaan Palestine)، الّتي تصدّر منتوجات عضويّة في اطار التجارة العادلة، توجّهًا مشابهًا: “بالنسبة إلي، البلديّ هو أقرب ما لدينا إلى الزراعة العضويّة المرتبطة بالأرض والبيئة. تتغيّر السلالات المحليّة بتأثيرات المناخ المصغّر للمنطقة من مكان إلى آخر: على سبيل المثال، سيكون الباذنجان الّذي ينمو في بتير مختلفًا عن الّذي ينمو في الناصرة…أنا لا ألاحظ استخدام سياسيّ واسع للمصطلح، إلّا وسيلة للفت النظر والاهتمام بالزراعة المحليّة – لتقديس وتطوير العلاقة بين السلالة، وطريقة الزراعة وأسلوب المزارع”.

إنّ الربط المدوّي الّذي أجراه أبو-فرحة بين البلديّ وبين “التيروار” (الزراعة العضويّة المرتبطة بالأرض والبيئة) ينتمي إلى مفهومين يصفهما عالم الاجتماع لوسيان كرافيككاقتصاد “المتفرّد” الّذي يطوف العالم، أي اقتصاد عالميّ يعتمد على شاعريّة العلاقة بين المحليّ والأرض، والموجّه بشكل خاصّ إلى الطبقة الوسطى-العليا، الحضاريّة والعالميّة. يعتقد تميمي أيضًا أنّ استخدام المصطلح “بلديّ” في السياق التسويقيّ والسياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ يحصل بالأساس خارج فلسطين: “سيكون الدافع في هذه الحالة الرغبة في الحفاظ وتربية – الأجيال القادمة على معرفة السرديّة القوميّة وليحيا المعنى البلديّ على ألسنتهم”. ورغم ذلك، ينشر تميمي وصفات طعام للجمهور الناطق بالإنجليزيّة ولا يوظّف سلالات البلديّ; فسلالات البلديّ متاحة بشكل أقلّ حتّى أمام الجمهور المحليّ، فمدّة صلاحيّتها قصيرة وهي غير ملائمة للتصدير إلى خارج البلاد. نفهم من ذلك، أنّه في حين وجود دلالة البلديّ في حياة المجتمع الفلسطينيّ في البلاد فقط في السياق المحليّ – على “أرضنا”، – استخدامها الرمزيّ كأداة للاحتجاج أو للتربية يتواجد خارج حدود إسرائيل/ فلسطين خاصة لدى المغتربين واللاجئين.

تصوير:متان شوفان

إحدى أكثر الخلاصات المثيرة للاهتمام الّتي توصّل إليها غروسليك، هيندل ومونتريسكو تتعلّق بتجسّد البلديّ في صيغة ثالثة – إعادة التشكيل المجدّد للبلديّ في المجتمع الفلسطينيّ بتأثير الشركات التجاريّة الإسرائيليّة: فالبلديّ ليس اقتصاد ومقاومة فقط، إلّا أنّها جزء من علاقة المجتمع الفلسطينيّ مع السوق الإسرائيليّ. ابتداءً من سنوات الـ 90، بدأت شركة شتراوس في ترويج وتسويق علب اللبنة في الضفة الغربيّة وغزّة. دوّن على نفس العلبة توصية الشركة على وصفات أكل، وفيهم تشجّع الشركة استخدام الباذنجان “البلديّ”. بكلمات أخرى، بدأت الصناعة الإسرائيليّة إعادة تسويق وبيع البلديّ إلى الفلسطينيّين”.

وهكذا يربط البلديّ بشكل مفاجئ بين الحواكير الفلسطينيّة، بائعات متجوّلات بين بيوت شرق القدس، مزارعي الجريلة في الضفة الغربيّة، مستهلكين أصحاب الذوق الرفيع في لندن وطوكيو، مطابخ الأشباح في زمن الكورونا – واللبنة المعلّبة الّتي انتجت على أيدي شركة إسرائيليّة والّتي تسوّقها للعائلات الفلسطينيّة. وفيما بينهم، يُشحن بالمعاني الشخصيّة، العاطفيّة والسياسيّة – ويتفرغ منها جميعًا – إلى أن يعود من جديد.

المزيد من المقالات من مجلة اسيف