Four women in semi-outdoor market sampling food
تصوير نوريت بوران

نتجوّل في أعقاب الطّعام

سبع مرشدي جولات طعام رائعين في اسواق البلاد

اييليت لاتوفيتش |

عندما نمرّ في سوق محنيه يهودا في القدس، أو سوق لفينسكي في تل-أبيب، أو في أزقّة عكّا، سنصادف في أغلب الأحيان مجموعات مفعمة بالمتعة والتّلذّذ، ونجدهم في بعض الأحيان منتشين بعض الشيء. يتوقّف مرشد الطّريق كلّ بضعة أمتار، وتتسرّب من الأكشاك والدّكاكين نكهات المشرب والمأكل، ومن ثمّ ينتقل إلى المحطّة التّالية.

سيبدو الأمر للنّاظر على المشهد من الجانب كأمر ديونوسيّ، وفي بعض الأحيان هو كذلك. وبالرّغم من هذا، من بين جولات الطّعام الّتي تهدف إلى تبرير تكلفتها وخلالها تنفجر المعدة، هنالك جولات في مناطقَ مختلفة من البلاد تمّ نسجها عن طريق الإلهام ومن أجله، وللتقرّب والاكتشاف. تحدثنا مع عدد من هؤلاء المرشدين، وقد استحضر كلّ واحدة وواحد منهم اسلوبه وذوقه إلى خارطة ثقافة الأكل المحليّ.

جولة نعاماه الياهو في محطة الباصات  المركزيه في تل ابيب

تصوير معيان ديسكين

عندما نتتبّع نعاما إلياهو خلال جولتها في المحطّة المركزيّة في تل أبيب تختلط الشّهوة والرّغبة بخشونة المكان الغريبة. تبتهج غدد التّذوّق وتتشبع بالتّحدّيات السّهلة أ   يضًا، البطن يشعر المحبة، ويمتصّ العقل والقلب حكاية المنطقة المركّبة. لدى نعاما معرفة عميقة وطويلة الأمد مع ثقافات الشّرق الأقصى- فهي انتهزت كلّ فرصة لتعود إلى تلك البلاد منذ أن زارتها خلال رحلتها الأولى بعد الخدمة العسكريّة، فجالت فيها، وتذوّقت طعامها، وعاشت تجاربها، وعند عودتها إلى البلاد، بدأت في البحث لتكتشف الباحة الخلفيّة في البلدة الّتي ترعرعت وكبرت فيها كطفلة، فوجدت في نافيه شأنان في تل أبيب، مطبخ غني ومتنوع في انتظارها. فراحت تتجوّل بين المطاعم، وتعرّفت على الأشخاص والعاملين في كواليسها، تساءلت واشتكت من عدم وجود أسواق الطّعام- إلى أن فهمت أنّ بإمكانها إقامة سوق طعام بنفسها.    

شمل سوق الطّعام الّذي أقامته أكشاك لمهاجرين من آسيا، ولاقى السّوق نجاحًا باهرًا. وفي أعقاب أزمة كورونا بدأت تنظّم جولات الطّعام للجمهور المهتمّ، واليوم تقود أيضًا سكّان تل أبيب القدامى في جولاتها في البلدة المصغّرة الّتي تقع في منطقة المحطّة المركزيّة القديمة والجديدة أيضًا. يتدلّى الفكّ اندهاشًا أمام الثراء، وتعدّد الألوان وكميّة الأشخاص الّذين يتدفقون إلى المنطقة في نهاية الأسبوع. تريد نعاما أن نتذوّق، وأيضًا أن ننصت إلى وجهة نظرها حول القوى الّتي دفعت المنطقة إلى الإهمال والتّهميش.  يعكس الطّعام الظّروف الّتي نشأت فيها هذه الثقافات الأجنبيّة المتعدّدة في البلاد: يقدّم الطّعام الصّينيّ في غرفة خلفيّة وإلى جانبها غرفة تضمّ طاولة تدور عليها لعبة “شدّة” حامية الوطيس، الطّعام الفليبينيّ نجده داخل مبنى نصف مهجور في المحطّة الجديدة، وتقدّم السَّلَطة الفيتناميّة المنعشة على خلفية موسيقى الكرايوكي الّتي تؤديها العاملات الفليبينيّات في يوم إجازتهنّ. هذه هي الثّقافة المحليّة الّتي تحيا وتتواجد في الفناء الخلفيّ لثقافتنا. نعاما لديها رؤية لتلك المنطقة، فهي قد تكون تشاينا تاون التلأبيبيّة، وتشارك نعاما المتجوّلين برؤيتها الخاصّة، على أمل أن تتحوّل الرؤية يومًا إلى واقعًا.   

جولة معوز ينون في الناصره

يقود الطّعام الأشخاص إلى أماكن مدهشة، وحتّى إلى أماكن قد تثير مخاوفنا في ظروف أخرى. قد تكون جولة طعام في بيت حنينا أو في شعفاط وسيلة لتخفيف المخاوف النّاتجة عن التّغطية الإعلاميّة الملاصقة لهاتين المنطقتين، والتّجوال في أعقاب الطّعام إلى المناطق غير المعروفة والمجهولة- عندما ينتظر المشتركين في الأكشاك ولدى الطّاهيات المختلفات أطباق حافلة بالمأكولات الشّهية يتحوّل اللّقاء إلى نقطة مرجعيّة آمنة.  في فضاء المدن المختلطة كمدينة القدس، حيفا وعكّا، أو حتّى النّاصرة، تُقام جولات طعام عدّة تهدف إلى كسر حاجز الخوف وإزالة الحواجز. يقول معوز ينون، أحد أصحاب نزل فوزي عازر في النّاصرة، “الطّعام مجرد حجة”. الجولة الّتي يقيمها أطول من المعتاد- مدّة الجولة عبارة عن خمس ساعات من التّنقل بين المتاجر المختلفة، حيث يتيح للشّخصيّات العاملة نسج محتوى الجولة. المشاركون يأكلون ويتجولون، لكنّ الكنوز الحقيقيّة في الجولة هي حكايات المحليّين الّتي يروونها بأنفسهم- “إنّها حكاية تحمل في طياتها ألم، تحديات وصعوبات، وفي ذات الوقت الحكاية مدجّجة بالتّفاؤل والكثير من الأمل، والأهمّ حكاية شهية”. الكاريزما الشّخصيّة تلهم المتجولين وتثيرهم، وعند وقوف الإنسان أمام أخيه الإنسان قد تسقط المسمّيات وتتلاشى الملصقات، أو على الأقل تستريح لوهلة من الزّمن.  

جولة في عكا مع نوريت بوران

تصوير نوريت بوران

نوريت فوران أيضًا، الّتي تقود المجموعات إلى أفضل المتاجر والمطاعم في سوق عكّا، تسلّط الضّوء أوّلًا قبل كلّ شيء على النّاس. “أعرف عكّا منذ أن عرفت نفسي- ومع الجولات الّتي أقيمها اكتملت الصّورة لدي. تمّ تصميم الجولة أوّلا قبل كلّ شيء حول الأشخاص الّذين تربطني بهم معرفة مسبقة. من خلال التّاريخ، على درب الثّقافة. أقدم منصة للطّعام الأقل شهرةً، هذا الطّعام لا يتواجد في الصدارة ومن الصّعب الوصول إليه”. تودّ نوريت أن تكشف فرحة وشغف الأشخاص العاملين في الطّعام الّذين نلقاهم خلال الجولة. الإخلاص للعائلة، الرّومانسيّة، البطولة- خلف كلّ محطّة في الجولة نجد حكاية مثيرة ومدّهشة تجعل الطعام أطيب – رغم أنّ كلّ شيء شهيّ أصلاً. اللقاء المباشر بين نوريت والمجموعة والطّاهيات يخلق فضاءً آمنًا ومفعمًا بالفرح.

أنّ النّساء اللواتي تضعهن نوريت في مقدمة المنصة هنّ رائدات تجاوزن الحدود، ليسوا أقلّ من كونهنّ فنانات في الذّوق وموهوبات- نساء يقدن اقتصاد بيوتهنّ عن طريق الاستضافة وطهي الطّعام، هن ظاهرة جديدة مباركة ومرحب بها، خاصة في المجتمعات التّقليديّة والمحافظة، أو في المجتمعات الّتي قد تظهر على هذا الشّكل. اللقاء بين الإنسانيّ وغدد الذّوق يرتقي بالنّفوس حقًا، وشخصيّة نوريت، دون أدنى شكّ، هي الّتي تصنع الفارق.

جولة في الجنوب مع عادي روزين

تعيش عدي روزين في نتيف هعسراه في جنوب البلاد. سنوات من الصّواريخ وقذائف القبة الحديديّة أبقت الزائرين بعيدًا عن المنطقة. وفي كلّ مرّة كان يدور الحديث من حولها عن المنطقة باستعلاء أو بشفقة وقلق كانت تنفعل وتغضب. جولة الطعام في سوق الكرمل اجلت ضبابيّة الصورة وجعلتها أكثر وضوحًا- من خلال الجولة أدركت أنّ الطّعام وسيلة رائعة لتعريف على تنوّع وثراء منطقة معيّنة. وفي حالتها، سيتيح لها أن تكون سفيرةً للمنطقة الّتي تعتبرها بيتها العزيز. تنعم أشدود، أشكلون وسديروت بفسيفساء مبهجة من المطابخ، تصمم عدي لكلّ بلدة المسار الّذي يبرز تفرّدها ويظهر جمالها الخاصّ.

فمثلا، سديروت بالنسبة لعدي هي بلدة شبابية، أثرى وجود الطلّاب الجامعيّين فيها الحياة اللّيليّة. تتأثر البلدة من المبدعين، ويوجد فيها أيضًا كنافة رائعة ولذيذة. تمرّ مسارات جولاتها طريق المخابز، المطاعم، مراكز المشتريات والسّاحات الخلفيّة للبيوت. تهمّها التّجربة متعدّدة الحواس، وهي تحبّ أن تجمع بين الموسيقى والموسيقيين خلال جولاتها- “نجلس في فناء الموسيقيّ حاييم أوليال من فرقة سفاتييم، نسمع بعض من الفنانين الّذين خرجوا من هذا المكان الصّغير ونتناول حساء الحريرا”. الجولة في أشكلون مصحوبة بأحجية موسيقيّة، أسلوب عدي في الإرشاد شيّق وأنيق وصاحب روح شقيّة.

استكشف ازقة القدس مع نورا هيرتس

تعمل نوريت (نورا) هيرتس كمرشدة سياحيّة منذ أكثر من عشرين عامًا. يسحرها التّاريخ الحضارة والثّقافة، يتجلى فضولها وشغفها ومعرفتها الواسعة خلال الجولات الّتي تُرشدها- سواء كانت جولة في القدس القديمة، مع التّركيز على حارتيّ النصارى والمسلمين، أو خلال جولة مطوّلة تبدأ في الجهة الشّرقيّة من القدس للتعرف على الثّقافة المتعدّدة الألوان في السّوق، وتّتجه غربًا إلى داخل الأحياء اليهوديّة الأرثوذكسيّة المتشدّدة وذات الطابع المختلف جدًا، تقدّم نورا الجولة بشغف نراه في عينيها.

تثري نورا الجولات بالإشارات إلى العلاقات المتبادلة بين الثّقافة، الطعام واللّغة. تطّرق كلمات “ليحم” العبرية و”لحمة” العربية، على سبيل المثال، إلى الغذاء الأساسيّ في الثّقافة الّتي نتج عنها: نتجت كلمة “ليحم” (خبز بالعبرية) من ثقافة زراعيّة، حيث القمح هو الغذاء الرئيسيّ، إنّما كلمة “لحمة” باللّغة العربية، تدلّ على ثقافة رعاة المواشي الرّحّل، وتعتمد تغذيتهم الأساسيّة في الغالب على اللّحوم. تتعقّب الجولات جذور المواد الخام- على سبيل المثال، ما يفعل الزّبادي والسماق هنا؟ وسّعت نورا هذه الرّحلة إلى جولات قطف رائعة ترشدها في جبال القدس.

تصوير متان زينمان

جوله في شرقي القدس مع ايال اصولين

يقيم إيال أسولين جولات في منطقة باب العامود في شرق القدس. معظم الجولات معدّة للمجموعات، وبالأساس لطواقم المطاعم والأشخاص المهتمّين جدًا بعالم الطبخ. يهتمّ إيال بالطّعام وبتاريخ الطّعام، وبالإمكان تسمية جولته، بجولة جيو-سياسيّة-طهويّة. المسار الّذي صممه إيال يسلّط الضّوء على الأثر المذهل لقيام الدّولة على ثقافة الطّعام في شرق القدس، الّتي حوصرت فعليًّا بعد إغلاق الحدود الّتي كانت تصل المواد الخام عن طريقها إلى أسواق القدس، من مصر، الأردن ولبنان.

من بين الشّخصيّات الّتي ستقابلها في الجولة التّاجر المسنّ الّذي يعرف أسرار تحضير شراب الكركديه- عصير نبات الهيبسكوس القادم من مصر- كلّ ما يريده هذا التّاجر هو المحافظة على هذه المعرفة وضمان بقائها. “إنّي أتحدّث عن الانقطاع الّذي عاشه هذا الطّعام منذ تطور المشروع الصّهيونيّ، ومن جانب الطّهي فهو طعام مفقود الّذي أجبر على ملء الفجوات”. وجهة نظر إيال رائعة، فهي تثير الفكر وتتيح الخطاب. ما زالت تأثيرات الاحتلال العثمانيّ والانتداب البريطاني حاضرة في محطّات الطهي المختلفة، وتواصل التّردّد في أذهان الزّائرين حتّى في الأيام الّتي تتلو الجولة.

جولة في وادي النسناس مع ايريز جولكو

تصوير ايريز جولكو

يزوّد مرشدو الجولات المشتركين بنوع من العدسة المكبّرة لفحص الثقافة الوفيرة والواقع المركّب في كلّ سوق، حيّ أو بلدة، وتلك الخاصة لا تقلّ دهشة عن باقي المركّبات، التّقنيّات والنّكهات الّتي على الطريق. سواء كانت المحطّات “سريّة” أو المطاعم الّتي بالإمكان زيارتها خارج إطار الجولة، غالبًا ستجدون المرشد مطّلع يكشف لكم صورة كاملة من تلك الّتي كنتم سترونها خلال جولة مستقلّة. تبرز جولات إيرز غولكو في وادي النّسناس في حيفا نقطة هامّة أخرى: تأثير جولات الطّعام على ثقافة الطهي المحليّ. منذ أن عشق إيرز الوادي قرر نشر عدوى هذا العشق العجيب، يزدهر الوادي ويكسب سيلًا من الزائرين المتكرّرين والمستهلكين المخلصين، تنسج العلاقات بين الزبائن والمنتجات، بين النهمين والمتذوقين الرفيعين. ولّدت جولات إيرز المزيد من المرشدين والجولات، وبثّت الحياة في منطقة تعدّ محميّة طبيعيّة في مشهد الطهي المحليّ.

المزيد من المقالات من مجلة اسيف