خباز الى جانب طابون طين
تصوير دور كيدمي

خبّاز يعاني من أزمة هويّة

سافر حجاي بن يهودا، جيل سادس لأسرة خبّازين ، إلى فرنسا كي يتعلّم تحضير الخبز بنكهات الماضي، إلى أن أدرك أنّ الأمر أقرب إليه ممّا كان يظنّ. فانطلق في رحلة بين القمح والشعير، بين بيتح تكفا وبريتاني، محاولًا العثور على بصمته المُميَّزة في حقل الحبوب

حجاي بن يهودا |

أول مرة حظيتُ فيها بالعمل مع أجناس تقليدية كانت في إقليم بريتاني بفرنسا، ضمن دورة لخبّازين مُزارِعين (PAYSAN BOULANGER). تساءل الجميع ما الذي يجعل شابّا صغيرا يقطع كل الطريق من إسرائيل إلى بريتاني، فأجبتُ بأنني أريد أن أتعلم عن أجناس القمح القديمة والتقليدية، بعد أن رأيتُها أول مرة في مقاطع يوتيوب، مقالات، وكُتب قرأتُها. أجاب مُرشِد الدورة فورًا, أنه للتعلُّم عن الأجناس القديمة، عليهم هم أن يأتوا إليّ إلى إسرائيل، إلى منطقة الهلال الخصيب التاريخية – موطن القمح ومسقط رأسه.

قمح كدوري في مزرعة السطح في اسيف

صدَمتني هذه الإجابة. وُلدتُ قبل 36 سنة لأُسرة خبّازين. قدِم جدّ جدّي إلى البلاد من بولندا، وأسّس أوّل مخبز في بيتح تكفا، وأنا أخبز خبز الساور- خبز العجينة الطبيعيه- منذ نحو 10 سنوات. كنتُ دائمًا أنظر إلى أنواع الخبز الأوروبية، زرتُ مخابز ومعارض خَبز في فرنسا وألمانيا، وكنتُ أحلم بنقل بعض هذا السحر الذي عشقتُه إلى إسرائيل.

حين عدتُ إلى البلاد بدأتُ بدراسة تاريخ الثورة الزراعيّة – أخذتُ أقرأ عن أهارون أهرونسون وعن اكتشاف القمح البريّ، وعن الباحث الزراعيّ العظيم نورمان بورلوج الذي أطلق “الثورة الخضراء”، التي ساعَدت دُولًا نامية على زيادة محصولها من الحبوب.

ارض القمح

بدأت القصّة قبل نحو خمس سنوات، حين كان مشروع “بلاد القمح” من معهد وايزمان ومعهد فولكاني، لإنقاذ أنواع القمح المفقودة في بلادنا، يخطو خطواته الأولى. زرتُ عامِلة المختبَر نعمي أفيف في معهد وايزمان، وشعرتُ بحماس كبير. فقد زرعتْ مئات أصناف قمح تقليدية في أُصُص صغيرة، وكانت زيارتي في مطلع الربيع – ذروة مجد القمح. استغربت من طول القمح التقليدي، وأذهلني تنوع االألوان والاشكال للسنابل من نوعيات قمح مختلفه . كان هذا رائعا حقًّا.

لكنّ النشوة التي سيطرتْ عليّ سرعان ما رافقها شعورٌ باليأس. فكيف يمكن التعامل مع تاريخ كهذا – طويل وزاخر بكلّ هذه الأجناس؟ يجب تكثير كلّ جنس كهذا، أي زراعته في قطَع صغيرة من الأرض، مرّة بعد مرّة، حتى الحصول على ما يكفي من البذور لزراعة أرض كبيرة، تزوّد كمية كبيرة من البذور يمكننا أن نطحن طحينًا منها ونحاول إنتاج خبز منه. وقد نفتح الفرن في نهاية كل هذه العمليّة ونكتشف أنّ السنبلة التي صنعنا منها الخبز رائعة الجمال، لكنّ المذاقات التي يحملها هذا الجنس ليست مثيرةً للاهتمام بما يكفي. وربّما ندرك بعد كلّ ذلك أنّ هذه الأجناس الرائعة ليست ملائمة على الإطلاق لإنتاج الخبز، إذ ربّما استخدمها الفلّاحون العرب الذين زرعوها قبل عقودٍ أو قرون لإنتاج البرغل أو الفريكة. فمن أين نبدأ؟

تواصلتُ مع د. روعي بن دافيد من معهد فولكاني، واكتشفتُ عبره وبالاستعانة بطاقمه الرائع أجناسًا من القمح حُفظت في بنوك جينات في البلاد والعالم، نمتْ هنا لقرون وربّما لآلاف السنين. هناك أجناس قمح تُدعى بأسماء مثل “أبو فاشي”، “الجلجولي”، “الحوراني”، “الحيتي السودا”، “الغزاوي”، “فلسطينسقية”، “دوبيا سمرا”، وغيرها. وتبيّن لي أنّ كلّ مجتمع في كلّ منطقة زرع سلالات خاصّة به، سواءٌ بسبب التفضيل الزراعي أو بسبب حاجات مختلفة في الطبخ. ليس واضحًا ماذا كان الأمر الذي أثّر في الأمور الأخرى.

التوجه الى الحقول

لسنواتٍ طويلة جدّا، كنتُ منشغلًا جدّا بدراسة قواعد الخَبز الأوروبي، دون أن أُدرك الكنوز الموجودة لدينا. قرّرتُ أنّ عليّ، مثل الخبّازين الزراعيين في فرنسا، أن أحاول زراعة القمح بنفسي – قمح ينبت في الأرض التي أعيش عليها. دخلتُ إلى مجال لم أكُن أعرفه. كشابّ مدنيّ من بيتح تكفا، لم أكن أعرف شيئًا تقريبًا عن الزراعة وعالَم النبات. بدأتُ بقطعة أرض بمساحة أربعة دونمات في موشاف نحليم، تعلّمتُ التمييز بين النباتات ذات الأوراق الواسعة (الخبّيزة، الخرفيش، الخردل، وغيرها) وبين التي أوراقها ضيّقة (الشوفان، الشعير البريّ)، وتحديد إذا كان ما نما قمحًا أم شعيرًا. أدّى قراري عدم رشّ القمح بموادّ ضدّ الحشائش إلى أن أتعلم متى بالضبط يجب الزرع وكيف تُحضَّر الأرض للزرع – هل يجب الحرث يدويّا أم آليّا.

تصوير:متان شوفان

تعرّفتُ إلى لغة جديدة. تعلّمتُ كل شيء من الصِّفر، لكن رغم الإخفاقات المُزعجة التي أعيشها في الحقل، أشعر بأنني أقترب أكثر فأكثر من مادّتي الخام الأساسيّة. بدأتُ أتساءل كيف يعرف كلّ صانع للنبيذ طريقة متابعة كرومه، يعرف الأصناف التي يتعامل معها، أي ارتفاع وأي نوع أرض ملائمان لكلّ عنب، وما هو الوقت المناسب للحصاد، لكنني كخبّاز لم أكن أعرف شيئًا – أين زُرع القمح الذي أعمل به، ما الذي مرّ به، وكيف خُزّن. لم أعرف وقت الزراعة ومقدار البذور للدونم، وكيفية التمييز بين القمح الطريّ والقمح القاسي وفق ظهوره في الحقل. لكنّ التجربة التي مررتُ بها حوّلتني إلى خبّاز أكثر انتباهًا.

بعد خمس سنوات من التجارب، نجحتُ في جمع ما يكفي من البذور لتوسيع الزراعة. ثمّ بدأتُ بالتعاون مع عائلة مزارعين رائعة في موشاف شارونا – دوفي وإيتاي نوي. جلبتُ لهما الأكياس مع البذور، وشعرتُ أنّ لديّ اللغة والمعرفة الأساسية لأتحدث معهما عمّا أريد الحصول عليه من قطعة الأرض التي يفلحانها لصالحي. زرَعا 20 دونمًا من أصناف قمح تقليديّة، وبعد الحصاد وتنقية البذور، تمكّنتُ أخيرًا من بدء الخَبز بأصناف قمح تقليديّة ومحليّة. شعرتُ بالسعادة.

خبّاز يعاني من أزمة هويّة

في إحدى زياراتي إلى فرنسا، طلب منّي فرانك، خبّاز تعرّفتُ إليه في دورة الخبّازين المُزارِعين، أن أشاركه بوصفةٍ مميّزة أُحضّرها في إسرائيل. ارتبكتُ. فكّرتُ أنني أفعل ما يفعله هو – نفس أنواع الخبز، نفس الأساليب، ونفس العمليّات. شعرتُ للوهلة الأولى ببعض الزيف. فطالما كنتُ أخاف من تقليد الآخرين وأحاول إيجاد بصمتي المُميَّزة في كلّ شيء أفعله، لأجد نفسي فجأةً مقابله دون أن يكون لديّ ما أُجدّده له؛ ليس هناك ما يمثّل المكان الذي آتي منه. أنا خبّاز ذو أزمة هويّة. 

تصوير دور كدمي

لا تزال هذه المعضلة تؤرقني – فرحلتي كخبّاز إلى مملكة الأصناف التقليدية أثارت لديّ أسئلة عميقة. أدركتُ أنه مثل طهاة إسرائيليين كثيرين، يبدأون باستخلاص لغة مميّزة من موادّ خام محليّة، يقودني أنا أيضًا البحث المستمرّ مرّةً تلو أخرى إلى المادّة الخام النقيّة. وخلافًا للشوكولاتي أو صانع القهوة، اللذَين لا تنمو الموادّ الخام التي يستعملانها هنا ولا بدّ من استيرادها، علينا كخبّازين أن نكون ممتنّين لأنّ القمح هو في بيته هنا.

آمل أن يجد الخبّازون في أرجاء البلاد طريقةً لدراسة هذا الكنز المحليّ. وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فلا فرق حسب رأيي إن اخترنا تحضير الخبز العربي، خبز العجينة المتخمّرة، أو الباجيت. ليست هذه هي المسألة، ما دُمنا نحترم، نعرف، نقدّر، ونصون المكان الذي نعيش فيه والذي اخترنا أن نخبز فيه.


سافر حجاي بن يهودا،  جيل سادس لأسرة خبّازين ، إلى فرنسا كي يتعلّم تحضير الخبز بنكهات الماضي، إلى أن أدرك أنّ الأمر أقرب إليه ممّا كان يظنّ. فانطلق في رحلة بين القمح والشعير، بين بيتح تكفا وبريتاني، محاولًا العثور على بصمته المُميَّزة في حقل الحبوب

المزيد من المقالات من مجلة اسيف