ما خلف القشرة: نبحث تاريخ الحمضيات في الشرق الاوسط

تُعتبر الحمضيات جزءًا لا يتجزأ من مطابخ الشرق الأوسط، دليل على ذلك منتج برتقال يافا والذي أصبح واحدًا من رموز المطبخ الإسرائيلي، إلا أنّ أصوله تعود لجنوب شرق آسيا. يأخذنا كلّ من هيلا ويزهر ساهار، من مطعم روتنبرغ في عيميك همعيانوت، في جولة تاريخيّة لإحياء زاوية الحمضيات التابعة للعصور الوسطى

هيلاه ويزهار ساهار رونين |

هيلا ويزهر ساهار هما طهاة وأصحاب مطعم “روتنبرغ” المتواجد في غور الأردن.  ترتكز لائحة الطعام في المطعم، المتواجد في مبنى جمركي تاريخي على الحدود الإسرائيلية الأردنية، على المكوّنات المحلية والموسمية، على إحياء وصفات تاريخية واتّباع تقنيات تقليدية لحفظ الطعام،تخليله وتخميره.  مصدر العديد من المنتجات المعروضة في حديقة الخضروات، البستان والحقول البرية التي تحيط هذا المطعم المنعزل.

هيلاه ويزهار ساهار رونين. تصوير دان بيرتز

بالنسبة لسكّان إسرائيل في القرن الـ21، لا يوجد أمر طبيعي أكثر من عصر ليمونة ووضعها على السلطة، تناول عصير البرتقال الطازج في الشتاء أو تقشير المندلينا الطازج. أصبحت الحمضيات جزءًا لا يتجزأ من مطابخ الشرق الأوسط، حتى لو أن أصولها تعود لجنوب شرق آسيا، وفي الأصل – بحسب أقوال الباحثين – لم يكن هناك سوى أنواع معدودة (بما في ذلك الإترنج، البوميلي والمندرين). قد أصبحت عائلة الحمضيات الكبيرة والمتنوعة اليوم مشهورة في جميع أنحاء العالم، إلا أنّ الشرق الأوسط يحظى بمكانة مرموقة في الرحلة التاريخية والطهوية المشوّقة التي خاضها.

بحسب الأدلة الأثرية والنقوش، وصلت الحمضيات إلى الشرق الأوسط في القرون الأولى قبل الميلاد، عبر طرق التجارة القديمة بين شرق آسيا وحوض البحر الأبيض المتوسط. قد ساهم كلّ من اليهود، الذين استخدموا الإترنج كجزء من طقوسهم الدينية، والعرب، الذين قاموا بتأسيس إمبراطورية امتدّت عبر السنوات على مساحات شاسعة، في انتشار زراعة الحمضيات واستخدام ثمارها في الطهي. حظي البرتقال الشاموتي، وهو طفرة اكتشفت في بيّارات يافا في أواخر القرن التاسع عشر وتم تسويقه تحت اسم “برتقال يافا”، بشهرة عالمية وأصبح أحد أبرز رموز المطبخ الإسرائيلي.  استعمال الحمضيات الرائج لا يقتصر فقط على استخدام لبّ الثمرة أو العصير المستخرج منها بل على أجزاء أخرى من الشجرة، بما في ذلك الساق، الأوراق والأزهار.

مسحوق اوراق الحمضيات. تصوير دان بيريتز

مختصر تاريخ الحمضيات في بلاد الشام

أولى الأدلة الأثرية لوجود الحمضيات في الشرق الأوسط تمّ العثور عليها في منطقة رمات راحيل بجوار القدس (تعود للقرنين الـ5-6 قبل الميلاد) وفي منطقة قرطاج الواقعة شمال أفريقيا (نحو القرنين 3-4 قبل الميلاد). من تولّى مهمّة نقل المواد الخام والمواد الغذائية هم التجّار، الذين مرّوا عبر الطرق التجارية القديمة، وجيوش المحاربين، من بينهم جيش الإسكندر الأكبر. تصف رسائل الحملة العسكرية دولة الفرس كمركز لزراعة الحمضيات، وطرق التجارة التي قام المحتلّون بتحسينها أتاحت مرورًا منظّمًا للتوابل والأطعمة على أنواعها إلى أجزاء مختلفة من البلاد في العصر الهلنستي.

في ظلّ الحكم الروماني، أصبحت ثمار الحمضيات، وخاصة الإترنج، أكثر انتشارًا. تظهر الأدلة على زراعة واستخدام الحمضيات، بما في ذلك الليمون ولربما البرتقال أيضًا، في جميع أنحاء الإمبراطورية، ابتداءً من روما وصولًا إلى المناطق القريبة من الحدود المصرية.

تأثّرت الإمبراطورية الإسلامية، المتمركزة في بغداد، من تقاليد الطهي الفارسي والبيزنطي. في باحة الخلافة الإسلامية في بغداد، برزت ثقافة طهي غنية شملت وجبات فاخرة من الخيال. يشهد ثراء الألوان والروائح وعمق النكهات على مكانة منظمي وجبات الأعياد ومواردهم المالية. في الأدب المطبخي في عصر الخلافة العباسية، القرنين الثامن والتاسع للميلاد، يمكن إيجاد عدد كبير من الوصفات التي تحتوي على الحمضيات إلى جانب تفسيرات عن الأنواع المختلفة وكيفية دمجها في المطبخ. أحد أبرز الأمور هو استخدام كافة أجزاء ثمرة الحمضيات، بدءا بعصيرها وحتى أوراقها: من عصير الحمضيات، يُصنع شراب الليمون المنعش ويضاف اليه العسل؛ يتم تحميض الثمار نفسها، تخليلها، تخميرها وتحويلها إلى مربى؛ يتم استخدام القشرة، من بين أمور أخرى، في تحضير النقانق؛ ويستخدمها أصحابها في مجموعة من أطباق اللحوم والأسماك.

واحد من أبرز الأطباق في المطبخ العربي في العصور الوسطى هو السكباج. السكباج هو مصطلح في اللغة الفارسية، وهو خير دليل على تأثيره الكبير لهذا المطبخ العريق على المطبخ العربي وبالتالي على المطبخ الغربي، ومعناه اليخنة المصنوعة بالخل (سيك = خل، باج = يخنة). بالمناسبة، يعتقد العلماء أن أصل كلمة “سبيتشه” يعود للكلمة الفارسية القديمة سكباج، ويدعي البعض أن أطباق السكباج، التي تم تقديمها باردة مما أدى إلى تكوين جيلاتين داخلها، أعارت اسمها لمصطلح ” أسبيك “(مادة الجيلاتين). في كتب الطبخ القديمة، محفوظة عشرات الوصفات لأطباق السكباج المطهوّة بلحم الخروف، الماعز أو السمك مع الخلّ ومكملاته في العصر القديم – العسل أو دبس الفاكهة (كان المذاق الحامض-الحلو دارجًا بشكل خاص في المطبخ العربي في العصور الوسطى). في العديد من هذه الوصفات، تظهر أوراق الحمضيات – الليمون، الإترنج أو البرتقال – في أطباق السكباج.

تصوير:متان شوفان

في السنوات الأولى من إقامة مطعمنا، الذي يقع في وادي الأردن في منطقة كانت تحت سيطرة الإمبراطورية الإسلامية، قمنا بتقديم نسخة عصرية من السكباج مع إضافة أوراق الحمضيات المأخوذة من البستان الموجود في ساحة المطعم.

  كان من المتّبع إضافة الحمضيات لوصفات اللحوم بهدف إعداد أطباق خفيفة يسهل هضمها. في الفترة التي اعتبرت فيها التغذية جزءًا لا يتجزأ من علوم الصحة، اعتقد الأطباء حينها أن الحمضيات تساهم في تقوية الجهاز الهضمي وتساعد الجسم على التعامل مع الوجبات الغنية والدسمة. ومن الخصائص الطبية الأخرى التي تُنسب إلى الحمضيات هي إنعاش رائحة الفم، علاج الصداع، الغثيان، الدوار، الحمى والإسهال. تمّت إقامة زاوية الحمضيات الغنية في العصور الوسطى نتيجة للحاجة إلى الحفاظ على الطعام الغير موسميّ في عصر لم تكن فيه بعد وسائل تبريد متطورة؛ ولكن أيضًا نظرًا لأن عصير الحمضيات مجفّف وكميته محدودة، فقد تم دمج القشر المجفف، البذور وأنواع الأدوية المنقوعة في الملح، السكر أو الخل في الجرعات الطبية. في مصر في القرن الـ12 تم تأليف كتاب خصّص بالكامل للخصائص الطبية للليمون.

طوّر المزارعون والمهندسون الزراعيون في الإمبراطورية الإسلامية على مرّ القرون أساليب جديدة للريّ والزراعة. ساهم تحسين الأساليب الزراعية في انتشار زراعة الحمضيات في المناطق التي انتشرت فيها الإمبراطورية الإسلامية، بما في ذلك شمال أفريقيا، جنوب إيطاليا وإسبانيا. ومن جنوب أوروبا انتشرت ثقافة الحمضيات أيضًا إلى العالم الجديد، إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، مع سفن المستكشفين، الغزاة والتجار من إسبانيا والبرتغال.

“تتمّ زراعة الحمضيات اليوم في كلّ أنحاء البلاد، ومع ذلك يبدو أنّها وجدت بيتا مميّزًا يرعاها في الشرق الأوسط. في النصف الثاني من القرن الـ19 انضمّ فلاحون يهود إلى إلى فلاحين عرب وشهدت صناعة البيارات في البلاد نجاحًا وازدهارًا”

هيلاه ويزهار ساهار رونين

تتمّ زراعة الحمضيات اليوم في كلّ أنحاء البلاد، ومع ذلك يبدو أنّها وجدت بيتا مميّزًا يرعاها في الشرق الأوسط. في النصف الثاني من القرن الـ19 انضمّ فلاحون يهود إلى إلى فلاحين عرب وشهدت صناعة البيارات في البلاد نجاحًا وازدهارًا. في الأراضي الترابية التابعة للسهل الساحلي، والتي تعتبر أقلّ ملاءمة للمحاصيل الحقلية وزراعة الخضار، تمت زراعة بيّارات تبلغ مساحتها آلاف الدونمات، كانت قد ظهرت في أوصاف المسافرين في تلك الفترة. تمّ إرسال الحمضيات من إسرائيل إلى الخارج عبر ميناء يافا إذ اكتسبت سمعة دولية، برتقال الشاموتي تحديدًا، وهو صنف تمّ اكتشافه في بساتين يافا وتطور تلقائيًا من البرتقال البلدي المحلي. مذاقه الحامض-الحلو، قشرته الرقيقة وقلّة البذور فيه جعلوه يحظى بشعبية في كافّة أنحاء العالم.

الحمضيات في المطبخ المحلي المعاصر

حتى في عالم الأسواق الدولية، كثيرة التقلبات الاقتصادية التي تصعب الحفاظ على الزراعة، تظلّ الحمضيات واحدة من الرموز العريقة لمطابخ المنطقة. تُزرع في إسرائيل اليوم مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأصناف، ولا يزال تصدير الحمضيات صناعة بارزة إذ تعمل معاهد البحوث الزراعية على تطوير أصناف ذات خصائص محسّنة للمزارعين والمستهلكين. يبدو أيضًا أن زاوية الحمضيات آخذة في التطوّر – بفضل الأجناس والأصناف الجديدة وبسبب محاولات تطبيق تقنيات الحفظ والطهي المختلفة على جميع أجزاء الشجرة.

قشور الحمضيّات المسكّرة. تصوير: متان شوفان

إنّ اتّباع طريقة “من الأنف إلى الذيل” (مصطلح يعني الاستفادة من جميع أجزاء المنتج الغذائي) على كافّة المواد الخام في المطعم، ابتداء من اللحوم وحتى الفاكهة التي تُقطف من الحقول البرية، ينطبق أيضًا على الحمضيات ويسمح بتلاعب لانهائي في النكهات، الروائح والقوام. في عالمنا الحديث نجح الباحثون، المزارعون والتجار في إطالة موسم الحمضيات ليكون على مدار العام تقريبًا؛ ولكن في حديقة مطعمنا، وكذلك في ساحات المنازل وحتى في شوارع مدن الشرق الأوسط، لا تزال الحمضيات منتجًا موسميًا بامتياز. استخدام أجزاء الشجرة المختلفة في الموسم عندما تكون في أحسن حالاتها؛ ومحاولة الحفاظ على الثمار بعيدًا عن فصل الشتاء (من خلال التخمير، التخليل والحفظ بتقنيات إضافية) تضفي نكهات جديدة يمكن تطبيقها في المطبخ المنزلي أيضًا.

استكشفو مجموعة وصفات مطعم روتنبرغ  لحفظ الحمضيات