“بلاد التين الأسود”

مطبخي الفلسطينيّ: تاريخ وقصص عائلية

مزنه بشاره |

“بلادي ما بحب الا بلادي, بلاد العنب والتين السوادي”

“بلادي ما بحب الا بلادي, بلاد العنب والتين السوادي” -اغنيه من التراث الفلسطيني

ليس هناك موسم فاكهة أو خضروات يجعلني أحنّ لشبابي كموسم التين. هذه الفترة الحارّة هي المحبّبة على قلبي؛ مزيج من الحرية الخالية من القلق، عيد ميلاد يصادف بداية آب وفصل الصيف، فأنا امرأة تروقها الحرارة والشمس.

يقع منزل والديّ في على أطراف كفر قرع، وخلفه أراض بور تنمو فيها نباتات برية، وشجيرات الصبر التي كانت بمثابة أسوار طبيعية تحيط الأراضي الزراعية وأشجار التين بمختلف أصنافها. كانت متعتنا الصيفية، أولاد الحارة والذين كلّهم من أولاد وبنات العمّ، مليئة برحلات المغامرات في البراري. قمنا خلالها بقطف الفاكهة الصيفية حلوة المذاق: الشجعان من بيننا قاموا بمسمرة تنكه لطرف عصا طويلة وقطفوا الصبر، آخرون “سرقوا” العنب والخوخ من أرض أبو أحمد، عمّنا المزارع، بينما أنا، عالمة ما الأفضل والأشهى، برعت بإيجاد حبّات التين الناضجة.

تين في وعاء
تصوير:متان شوفان

ثلاثة أصناف من التين كانت المحببة لدي. العسالي، حبّات تين طعمها ولونها كالعسل نمت بالقرب من منزل جدّي وجدّتي. لم تكن المنافسة مع جدّي بالسهلة، كان دائمًا يسبقني ويقطف الثمار الناضجة – لكنه أيضًا حرص على تناسي البعض منها، كي يتبقى لي ما أقطفه عند وصولي.  

الصنف الثاني هو البقراطي، أصل التسمية على ما يبدو يعود للفيلسوف اليونانيّ هيبوقراطس الذي يدعى أبقراط باللغة العربيّة. لونه أخضر من الخارج وأحمر فاقع من الداخل – هذه الشجرة كانت مصدر سعادتي، فقد نمت في أرض غير صخريّة يسهل الوصول إليها وكانت تنضج أوّلا من بين الأصناف الثلاثة. كانت تحمل الكثير من الثمار، فأكلت منها دون حدود. أذكر موقفًا مع أحد الجيران الذي التقيته بجانب شجرة التين هذه. بسبب قصر قامته، لم يتمكّن من وصول أعلى الشجرة فطلب مساعدتي وهو يتذمّر قائلًا :”الطويل بياكل تين والقصير بموت حزين”.  

السوّادي وهو الصنف الثالث، لربما كان الأكثر تحدّيًا لكنه أيضًا الأكثر إرضاء. إنها شجرة تنمو في تربة صخرية (أي غير محروثة على الإطلاق) مليئة بالأشواك الجافة. تمّ اختلاق أسطورة ثعبان العمارة حول هذه الشجرة عبر السنين – أسطورة لثعبان يملك قرونًا ويبلغ من العمر 100 عام، يظهر مرة واحدة في السنة تحت شجرة التين السويدي. ومع ذلك هذه الثمرة السوداء صاحبة القلب الأحمر جذبتني إليها ولم أتوقّف عن قطفها إلى أن نفذت الثمار الناضجة من عليها. للأسف، لم تعد هذه الشجرة موجودة منذ مدّة طويلة، لكن الشوق إلى ثمارها، التي تعتبر نادرة حتى في يومنا هذا، يطلّ كل صيف. سأشبع شوقي قريبًا فقد وجدت مؤخرًا في مشتل “يلكوط هروعيم”، المتخصص في الأشجار التراثية، أشجارًا من الأنواع المحلية والنادرة – وستنضم مثل هذه الشجرة إلى حديقة منزلي في الشتاء القادم.

التين في التاريخ وفي الثقافة المحلية

جاء أشعب بطل الحكايات الشعبية من سنوات 600-700 ميلادي، والذي كان معروفًا بشهيته اللامتناهية للطعام المجاني، لزيارة رجل ثري كان  قد وضع أمامه طبقًا مليئًا بحبّات التين. سارع الرجل الثري، الذي كان على دراية بشراهة أشعب، بإخفاء حبّات التين تحت الكنبة.  رأى اشعب فعل الرجل، حيّاه وطلب منه أن يقرأ له شيئا من القرآن.فقرا اشعب سورة “والتين والزيتون” متعمدا إغفال ذكر التين، وعندما رد الرجل الغني بغضب: “ويحك!أين التين؟” أجاب أشعب مبتسمًا – “تحت الكنبة”.

تين في وعاء
عنب. تصوير متان شوفان

هذه الحكاية الشعبية تُظهر المكانة الخاصة لا بل الدينية لشجرة التين في الثقافة العربية والإسلامية. يُعتقد أن أصول التين تعود لمنطقة اليمن اليوم، وقد تمّت زراعته منذ حوالي 6500 عام. إلّا أنّ باحثين آخرين يعتقدون أنه قد تمت زراعته حتى قبل ذلك، في بداية العصر الحجري الحديث منذ أكثر من 11000 عام، استنادًا إلى التين العقيم الموجود في الحفريات الأثرية بالقرب من كيبوتس جلجال. وبالتالي، ووفقًا لهذه المعطيات، فإن التين هو أقدم محصول ثقافي معروف بالنسبة إلينا. تم نقله من مكان إلى آخر نتيجة هجرات القبائل المختلفة وتكيّف جيدًا مع الظروف المناخية المحلية إذ يمكن العثور عليه في العديد من مناطق بلادنا ينمو كنبات بري أو في انقاض القرى المهجره.

في كلتا الحالتين، تعود الجذور التاريخية للتين إلى الماضي البعيد، ونظرًا لانتشاره الواسع واستخداماته المتعددة، فليس من الغريب ذكره مرات لا تحصى في مصادر تاريخية تابعة للديانات المختلفة – شجرة التين هي الأولى التي ورد ذكرها في التوراة كما ورد في المخطوطات الفرعونية القديمة. في الإسلام، أحد سور القرآن هي سورة التين، وفيها يقسم الله بشجرة الزيتون والتين لاعتبارهن بمثابة أعجوبة الخلق كونهما كاملتين من حيث الجودة والفائدة.

في كتب السيره النبويه، رُوي الكثير عن حبه صلى الله عليه وسلم, للتين الدمشقي الذي يشير اسمه إلى أصوله وكان معروفًا بنكهته الفاخرة. ويقال إنه تمّ إحضار طبق من التين إلى الرسول فدعاها بثمار الجنة.

التين في الطبّ وفي المطبخ العربي الإسلامي

تمّ ذكر التين كثيرا في كتب الطب القديم. اقتبس إبن زهر، الطبيب المسلم الأندلسي والذي عاش بين الأعوام 1000-1100، أقوال جالينوس، طبيب يوناني قد عاش حوالي 150 عامًا قبل الميلاد، وقال إن التين والعنب هم ملوك الفاكهة.

بموجب ابن سينا، الطبيب والفيلسوف المسلم الذي عاش ما بين الأعوام 980-1037 ويعتبر مؤسس الطب الحديث، فإن الطريقة التي ينصح بها أكل التين هي مع الجوز، كي تزيد فائدته الغذائية. كما أن الثمار الطازجة تساعد في تنظيف الكبد والكلى وتعتبر جيدة للنساء الحوامل والمرضعات كونها تزيد من إنتاج الحليب.

حلى التين المجفف (تين بالحليب)
حلى التين المجفف (تين بالحليب). تصوير متان شوفان

في المطبخ، تم استخدام حليب التين، ذاك السائل الأبيض الذي يتم إفرازه عند قطف الثمار أو كسر غصن من الشجرة، لصنع جبنة القريش- جبنة طرية تشبه الريكوتا. اعتاد الرعاة  إضافة بضع قطرات من حليب التين وخلطه مع حليب الأغنام الطازج باستخدام عصا من شجرة التين. خلال دقائق، كمفعول الخلّ المستخدم في صنع القشطه، يفصل الجبن عن الماء وبالتالي نحصل على جبنة سريعة، طرية وطازجة. إضافة إلى ذلك، نقع اللحم في حليب التين يجعله أكثر طراوة، أشبه بمفعول اللبن أو الفاكهة الاستوائية كالأناناس.

في قائمة الاطعمة المحلية هناك أهمية كبيرة للقطّين، تين مجفّف،والذي يعتبر مركبا غذائيا مهما جدا. في المطبخ التقليدي عامّة لا توجد العديد من الوصفات التي تحتوي على التين الطازج فقد كان من المتّبع الاستمتاع بالتين طازجا كما هو, أو حفظه – على شكل مربّى أو مجففا. فمنذ القدم كان من المتّبع جمع الثمار المتساقطة من الشجرة، ثم تسطيحها على “مشطاح” (لوح تجفيف) وتركها تجف تحت أشعة الشمس. حبّات التين المجفّف كانت تكدس على بعضها ككتلة واحدة، وهذا كان مصدر غذاء أساسي للبدو الرحّل. كانت تعتبر من العناصر الغذائية المهمة جدًا إلى جانب التمر في أوقات القلّة، ويمكن إيجادها فعليًا في العديد من الوصفات، وخاصة الحلويات.

مناقيش زعتر مع تين مشوي
مناقيش زعتر مع تين مشوي. تصوير متان شوفان

بوحي من المطبخ التقليدي هذه وصفة  مربى حبات التين الكاملة  و مهلبية التين المجفف التي تضيف النكهة وتساعد في أن يصبح الحليب كثيف القوام، سهلة التحضير دون إضافة السكّر. من وحي المطبخ الفلسطينيّ الجديد، أقوم بتحويل منقوشة الزعتر لمنقوشة التين المشويّ والجبنة.

المزيد من مجلة اسيف